شفتان.. قصة قصيرة للكاتبة المغربية لطيفة لبصير

شفتان.. قصة قصيرة للكاتبة المغربية لطيفة لبصير

آخر تحديث : الخميس 17 ديسمبر 2020 - 12:50 صباحًا

 

شفتان

لطيفة لبصير

0 1 2 - قريش

_____________

قاصة من المغرب

 

حين نظرت إلى شفتيه المكتنزتين، نسيت للحظة، أن أمامي جثة.

أزلت القفازين أمام نظرات رجب الحائرة وتركت أصابعي تتلمس شفتيه اللتين نامتا للأبد على شكل قبلة ناشئة. الحاجبان الكثان قد برزا على شكل خط عريض مرسوم بنوع من الفوضى، والجفنان الواسعان تغطيهما أهداب كثيفة. الأنف نافر بشموخ، وتحت الأنف ذلك الفم المرسوم بعناية فائقة وكأنه خرج من لوحة.

انحنيت قليلا وأنا أستشعر بأن جسدي أصابه الذهول أمام ما يرى، كيف انتهى هذا الجسد على شكل قبلة !؟

يا إلهي، كم هي رائعة هذه الجثة !

كان رجب ينظر إلي بوجل حتى لكأنه هم بأن يبعدني خوفا من أن أقبل الجثة.عدت قليلا إلى الوراء لأتأمل هذا الجسد الفارع، المكتمل، النائم بشفتين تبدوان وكأن صاحبه غادر كأس نبيذ  للتو، أو كأنما هو في إغفاءة قصيرة  وسيستيقظ  منها بعد قليل ليكمل قبلته. ولأول مرة منذ خمس عشرة سنة خلت، أشعر بأنني لا أرغب في أن يتقاسم معي غرفة التشريح أي كائن، حاولت التخلص من رجب بطريقة غير لبقة، كانت عيناه ترسمان نهما لمعرفة ما الذي سيحدث، لكنني قذفت به إلى الخارج وأغلقت الغرفة، أو هكذا حدث !

كأس شاي يحترق. شفتان ساخنتان. جسم مسجى ويداي بدون قفازين تجوبان لحمه بهدوء…والصمت الذي يكون مصحوبا بأصوات لا أعرف مصدرها، أصوات بعيدة تحدث زوبعة صغيرة وتصاحب الجثة وكأنها تكمل المشهد.

يا إلهي، كم أحببت هذه الجثة !

كان تقرير الشرطة العلمية قد أكد وفاة المهندس المعماري رحيم فريدي عن طريق طعن بالسكين في الصدر جهة القلب… بمقر شقته رقم  7  بعمارة ورد ، الكائنة بحي بوسيجور بالبيضاء.

التهمت جسده مرة أخرى، قطعة من المرمر الدافئ، وأحضان قوية بذراعين منحوتين بإزميل بارع، ومنعرجات أتخيل نفسي أتهادى فوقها بهدوء.

يا إلهي، من سولت له نفسه قتلك وأنت بهذه الوداعة التي أراها تكاد تتحدث عنك؟ من جعلك تغادر هذا العالم وأنت بكل هذا النضج؟

اقتربت منه أكثر وكأنني أنتظر منه أن يحكي لي الحكاية، كان تقوس شفتيه ينبئ بأنه بصدد الإسرار بشيء ما، لكنه لم يبدأ الحكاية، أمسكت بيده وسألته:

         هل تستطيع أن تحكي لي كل الحكاية؟

 لم يبد أي امتناع، كما أنه لم يبد أي قبول، ارتشفت جرعة من الشاي فسقطت قطرات دافئة على شفتيه محدثة إحساسا غريبا لدي، لقد بدا لي للحظة أنه حرك شفتيه قليلا لارتشافها.

  كان ينبغي أن أغادر هذه الغرفة في تلك اللحظة، فقد أحسست بمشاعر غريبة لم يحدث أن شعرت بها من قبل، كما أنه طوال السنوات التي قضيتها في دراسة تشريح الجثث، لم يسبق لنا أن تحدثنا عن المشاعر التي يمكن أن تحدث بين طبيب وجثة! وحتى طوال السنين التي قضيتها بمعية الجثث، لم يحدث أن أعجبتني جثة إلى هذا الحد.

  في الليل كنت أستحضر كل اللحظات التي رأيت فيها رحيم، وكنت أرغب في معرفة سيرته أكثر، رغم أنها لن تضيف لي شيئا في تشريح جسده، وللتو تلبستني رغبات غريبة، فلم أعد أريد أن أضع المشرط في هذا الجسد. في تلك اللحظة رأيته يحملني بقوة ويراقصني بصخب؛ بدا لون عينيه أزرق…استيقظت على دقات ترجني رجا، وارتديت ملابسي من جديد ثم ذهبت كالمحمومة إلى المستشفى، دخلت إلى الغرفة، ثم فتحت عينيه، كانت العينان فعلا، زرقاوين، يا إلهي، هل كنت رأيت هاتين العينين لحظة الهيام بالجثة؟ لا أظن…هل يمكن للجثة أن يكون لها أسرار تخبرنا بها ساعة الحلم؟ هل الرجل الجثة يعلم الآن بأنني بصدد وضع يدي على صدره المنعش؟ هل يعرف بأنني لا أريد أن أتركه هنا وحيدا دون أنيس؟

 يا للغرابة! فقد قضيت السنين الأخيرة في هذا المستشفى بسأم كان يكبر في داخلي بشكل غريب بعد أن مللت الجثث، أرهقني منظر الموتى وأجسادهم التي تطاردني في كل الأمكنة، حتى أنه كاد يتلف أعصابي، أو لعله أتلفها فعلا! غادرني زوجي دون تردد وكأنه يهرب من جحيم صراخي في الليل ومن رعبي الذي لا يكاد ينتهي، حتى أن الحمل الوحيد الذي وقع طوال هذه السنوات ضاع بفعل هذا الكم من الاكتئاب، وما زالت الأسماء التي يناديني بها زوجي تتصادى في الغرفة “مجنونة” “مريضة”… كنت لا أفتأ أراسل في كل عام وزارة الصحة كي أتخلص من هذا العمل، وأرفق ذلك بملفات طبية تثبت حالات اكتئاب قصوى، لكن دون جدوى، فلا أحد يصدقني.

  نظرت إلى رحيم باشتهاء و أدركت بأنني عدت إلى المستشفى في هذا الليل من أجله هو،  وأنني صرت أعشق هذا الصندوق الذي يخفي أسرارا كثيرة. كان رحيم قد صار أكثر وداعة من ذي قبل و كأنه كان يشعر بما يختلج في داخلي ومدى تعلقي به، كنت أشعر بهدوء تام بصحبته وبأنني لا أريد أن أتركه وحيدا في هذا الصندوق متدثرا ببرودة قاسية.

 في منزلي، كان يبدو لي أن الصباح سيكون من أجمل الصباحات لأنني سألتقي رحيم، ولذا استيقظت مفعمة بنشوة نادرة وارتديت تنورة حمراء ووضعت أحمر شفاه فاقع، وحملت معي حقيبة جلدية برتقالية اللون. كان جميع من في المستشفى ينظر إلي باستغراب، فعادة ما أكون ملفوفة في ثياب سوداء فوقها مريلة بيضاء وشعر معقوص ووجه منفر أكثر من الجثث التي تكون أمامي، لكنني اليوم، في حضرة هذا الجسد الفارع، مفعمة فعلا بنشوة عارمة!

 انتظروا طويلا أن أكتب تقريرا عن تشريح جثته، لكنني كنت أختلق سببا ما للتريث؛ كنت أماطل، وفي كل يوم أستخرج جثته وأناجيها طويلا وأتحدث إليها بصدق حار، حتى أنه بات على وشك أن يحكي لي الحكاية كلها! لكنه لم يفعل، بل أومأ لي بأصابعه التي التصق بأحدها خاتم فضي منقوش عليه حروف قرأتها وأنا أداعبها، كنت أتصور أن الحروف ستعلن على اسم امرأة، لكنها كانت تفصح عن اسمه هو: رحيم..

 كان رحيم هذا قد غير مشاعري تجاه نفسي، فقد كنت ألمس بأنه يحس بزينتي ويقدرها؛ لقد ابتسم قليلا وأنا أمرر أطراف أصابع يده المتدلية على فخذي، وتورد وجهه وتغيرت ملامحه تماما، حتى أن شفتيه ازدادتا اتساعا بشكل يبرز شهوة مستترة.

 لم أستطع أن أكبح كل ما يحدث بداخلي، تهاويت عليه وقبلته بجنون متجاهلة كل ما قيل عن السموم التي تداهم الجثث، لم يعد ذلك مهما، كنت أرغب في أن أحس بلحمه الحقيقي، وأدركت أن السر كامن في الشفتين المكتنزتين وكأنهما شريان يجدد الحياة.

  لم يقدم تقرير البحث أية نتيجة تثبت أن رحيم هو ذلك الوديع الذي كنت أتوقعه، فقد كان في سجله الحافل بالعلاقات الكثير من الضحايا، ومن المؤكد أن يدا من تلك الأيادي قد غدرت به، ومع ذلك لم أستطع أن أضع المشرط في جسده المسجى. أخبرني رجب أن دكتورا آخر غيري سيقوم بتشريح الجثة بدعوى أنني قدمت وثائق تثبت عجزي النفسي عن مواجهة الجثث.

ومع ذلك لم أرضخ؛ اكتريت منزلا خاصا له وحده، وحملت إليه ثلاجة كبيرة زينتها بكل ألوان الحياة، وبداخلها وضعت رحيم في أبهى زينته…

   هكذا، لم يعثروا عليه كما أنهم لن يعثروا علي برفقته !

من الغريب أنني كلما مررت قطع الثلج على شفتيه… كلما مررت قطع الثلج على شفتيه  يزداد دفئا وفوارا، مثلي أنا تماما…

_______________

قصة قصيرة خاصة لصحيفة قريش/ ملحق ثقافات وآداب  لندن

رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com