سناء شڤيبيرت قاصة فلسطينية في المانيا.. تتعقّب زهور البراري في تلك العزلة

سناء شڤيبيرت قاصة فلسطينية في المانيا.. تتعقّب زهور البراري في تلك العزلة

آخر تحديث : الثلاثاء 9 نوفمبر 2021 - 2:47 مساءً

ثلاث قصص قصيرة

سناء شڤيبيرت

Screenshot 2020 11 30 at 22.53.18 e1606777158601 - قريش

قاصة من فلسطين / مقيمة بألمانيا

عزلة الزهور 

كان بياض أغطية السرير ينافس شحوب ملامحها، وهي تتفرس في وجه النزيلة الجديدة، التي ستتقاسم معها ليالي الألم القادمة في هذا المشفى، حيث  تقبع منذ أشهر  للانتصار على بكتيريا نادرة، استوطنت جسدها وتأبى الرحيل.

وعلى دفتر صغير ينام بجانب وسادتها خلدت قصة جارتها، التي رحلت ذات فجر ظنّت أنه يشبه سابقاته.

ثلاثة أشهر كانت كافية لتكتب قصة حياة، توقفت عند محطتها الأربعين. مدة كانت تساوي عمراً  كاملاً، لم تقترب فيه هذه العابرة من بشر كما فعلت مع هذه الغريبة، التي شاركتها هواء هذه الغرفة المختلط برائحة الدواء وأنين نداءات  الخلاص.

حكت لها عن طفولتها في إفريقيا، حيث ولدت لأب كان باحثاً في الأمراض الاستوائية، ولأم كرست حياتها لحماية الفيلة من الصيد. 

عاشت حياة التنقّل في الأدغال وبناء صداقات مع كائناتها، ثم قسوة الانتقال للعيش في أوروبا بعد انفصال والديها، وهو ما زاد من عزلتها، ووضع مستقبلها تحت رحمة جدة متعبة زجت بها  في مدرسة داخلية، جربت فيها المخدرات لتدخل عالم الإدمان والمرض.

فانتهى بها الأمر  على سرير بملاءات بيضاء مبسترة، تكشف لكاتبةٍ ما لم يعرفه أحد عنها طوال حياتها، لتكتب رفيقة آخر محطات رحلتها القصيرة على هذه الأرض قصتها، في كتاب يحكي عن قدر زهور البراري مع العزلة.

الموت المنظم 

اشتدت الرياح على ظهر السفينة، لدرجة أجبرتني على البحث عن مكان داخلها أكمل فيه ما تبقى من الرحلة في هدوء.

وجدتُ زاوية تجلس فيها سيدتان في مقتبل العمر، تصف فيه واحدة منهن للأخرى سعادتها بإنهاء مهمة كتابة وصيتها، التي درستها بعناية طوال السنوات السابقة، لتقرر إيداعها مكتب محام اختارته ليعلنها على ذويها بعد وفاتها.

وفيها قدمت وصفا دقيقا ليوم جنازتها، وأسماء المخولين بإلقاء خطابات الوداع فيه، وأنواع الزهور التي ستزين قبرها، ومكان نثر رمادها بعد أن اختارت الحرق طريقة للتخلص من جثتها.

ونوهت إلى استعدادها للتبرع بكل الأعضاء، التي يجدها الأطباء سليمة في جسدها قبل تسليمها لمحرقة الموتى.

نظرت الأخرى إليها وقد تربع الشعور بالفخر على محياها، وحضنتها مهنأة إياها على إنجاز هذه المهمة، وأثنت على قدرتها في تدبير أمورها في وقت قياسي، لتعلن استحقاقها لهذه الإجازة القصيرة التي تنظمها شركات دفن الموتى لزبائنها المنظَّمين، الذين لا يؤجلون عمل اليوم إلى الغد.

الغبطة المفقودة 

كانت تلاحق الكلب بنظراتها وتبتسم. تقدمت إليّ بنظرات محت بريقها سنوات عمر، أثقلت ظهرها المنحني. وبصوت مرتجف، قالت إنها تحب الكلاب، ولكنها لم تفكر في اقتناء أي منها، بسبب حادثة لا تزال صورها قابعة في ذاكرتها، بالرغم من صغر سنها عند وقوعها.

وصفت لي الشقة، التي كانت تسكنها أيام طفولتها مع والديها وأخيها الأصغر وكلب وديع، كان لا يجد الأمان إلا بالتمدد تحت قدميها. وروت لي رعب تلك الأمسية وهم ينتظرون دورهم في العقاب، الذي كان الجنود المنتصرون يلحقونه برعايا ألمانيا النازية المنهزمة.

وصفت لي مشهد جلوسها مع عائلتها، حول مائدة لم تشهد الطعام منذ أشهر، ومنظر الكلب الهزيل تحتها وهو  يتكوم على نفسه بعد أن أرهقه جوعه، ووجه والدها وهو يعتذر منهم بعد أن تناول مسدسه ليطلق النار على الكلب، لتخليصه من عذابه ولحماية العائلة من نباحه، بعد أن قرروا الاختباء في مكان سري في القبو.

كانت تحكي لي وكأنها تعايش تلك التجربة مجددا أمامي. لم أَجِد كلمات أرد بها عليها، فتركتني لصمتي ولوحت للكلب من بعيد، واختفت عن أنظاري وكأن الغابة قد ابتلعتها، مثلما التهمت ذكرى الحرب الغبطة من حياتها.

قصص خاصة لصحيفة قريش- ملحق ثقافات وآداب – لندن

رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com