المبالغة في الفكر الشرقي..  مع الإمام  والديكتاتور معاً 

المبالغة في الفكر الشرقي.. مع الإمام والديكتاتور معاً 

آخر تحديث : الخميس 7 ديسمبر 2023 - 2:41 مساءً

المبالغة في الفكر الشرقي 

 حديث أبناء بلاد الرافدين نموذجا

Screenshot 2023 12 07 at 13.24.16 - قريش

إذا ما غضبنا غضبة مضرية

هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما

بشار بن برد

 د. توفيق رفيق آلتونچي

roundcube 1 - قريش
 د. توفيق رفيق آلتونچي

اقصد بالمبالغة كسلوكية بشرية عامة بتهويل الأمور او تصغير قدر الناس من تهميش  او حط من مكانتهم وقدرهم. ينعت بها  الأشخاص والأشياء والحوادث مع إعطائها حجما غير حجمهم الأصلي. المبالغة  توجد في النصوص الأدبية ، في الرواية والشعر والخطابة والأدب بصورة عامة. اثر ذلك على مجمل النشاط الابداعي وحتى على الفنون التشكيلية  والعمارة والنصب والتماثيل. كذلك نجدها، اي المبالغة ،في الحديث اليومي للناس حيث  تدخل ذلك ضمن أسلوب الحديث ،و كذلك الأفعال والسلوك البشري.

الغلو بجد ذاته هو استخدام المبالغة بشكل بلاغي، أو بشكل خطابي وكما في الشعر، وذلك لإثارة مشاعر المستمع ، وكذلك خلق انطباعات قوية لديه من تهويل وتعظيم او تسفيه وتصغير وتقليل من شان الناس. كل ذلك نجده كشكل من طريقة الكلام والحديث اليومي للناس في المجتمع العراقي.  

قبل ستين عاما ،كنت طالبا صغيرا ادرس في الابتدائية في ” المدرسة الغربية الابتدائية” في منطقة تعليم تبه, العرصات والمفرق الواقعة في مدينة كركوك. كان كتاب القراءة وفي إحدى نصوصه، يطلب من التلاميذ وفي تلك الأعمار الفتية التفكر جليا برواية حول ضفدعة نفخت نفسها مفتخرة  الى ان انفجرت وماتت. للدلالة على عدم التكبر وكما نقول بالبغدادي ” رافع خشمه للسما” . الإطراء المبالغ فيه يؤدي دوما الى بظهور شخصية  “الدكتاتور”  او حتى ما يسمى في علم الفلسفة بالإنسان الخارق السوبرمان الذي يتمكن فعل كل شيء دون واعز لان الإنسان العادي لا يفهم كنه ذلك الأفعال.

هذا ما دعا اليه الفيلسوف الألماني الفريد نيتشه، وكان من اهم مدعي تلك الفلسفة والتي ادت الى النهاية ظهور نماذج من أشخاص كما هو عليه قائد النازية الفوهر هتلر و امثاله، والعملية ديناميكية ومستمرة و”الحبل على الجرار” ولحد يومنا هذا. ينشد شاعرنا الكبير محمد مهدي الجواهري قائلا:

إنَّ النفاقَ حفيرٌ لا تلُوحُ بهِ    خُطَى المنافقِ إلَّا يومَ يَرْتَطِمُ

تَأَلَّبَ الشرُّ مسعوراً بهِ نَهَمٌ    إلى العضاضِ، وإنْ أودَى بهِ النَّهَم.

 الدكتاتور أينما كان و تواجد يقوم دائما بأفعال لا يمكن قبولها وتصديقها من قبل إنسان عاقل رزين. الا ان التفسير الفلسفي لتلك الأفعال الشريرة  يبين لنا وبوضوح بأننا كبشر عاديين لم نصل الى تلك الدرجة من الوعي لنفهم ما يفعل هؤلاء الخوارق من البشر.

Screenshot 2023 12 07 at 13.38.24 - قريش

سيرا على مقولة الإمام ” من ملك استاثر”. وسماه الغرب طبعا بالإنسان الحديدي الخارق اي (سوبرمان) وكي لا تزعل نصفنا الأخر الأنثوي سمي كذلك ب(المرأة الخارقة). في شرقنا هناك دوما شخصيات يتم نفخهم ونقول لهم “بطرانين” يعتقدون انهم فوق الجميع ويحق لهم فعل ما يريدون لان وببساطة الآخرين لا يدركون مغزى عملهم وقاصرين على فهمه. هذا النوع من البشر ابتلى بها البشرية والأدهى من ذلك بات هناك دوما جيشا من المنافقين يطبلون له  و يغنى له جوقة من الطبالين مادحين ويكتب الشعراء مهلهلين بعظمته وحكمته ووصل الامر باسباغ عليهم صفات الخالق. اما القنوات  التلفزيونية فانها تعرض ليل نهار انجازاتهم ( دون كيخوطه دي لا مانتشا)  نسبة للرواية المشهورة والتي كتبها الأديب الاسباني (ميكيل سرفانتس) الاسباني وتدور حوادث الرواية حول عجوز شبه خرف يعيش في عالم الخيال يتصور بانه فارس يصارع طواحين الهواء ويعشق فتاة لا وجود لها . هؤلاء المداحين (العبيد فكريا) والمنافقين لا يتوقفون من مدح مالكهم صبح مساء مما يزيد من نرجسية هؤلاء القادة ويغدون طغاة قتلة مارقين وينفجرون يوما.

يقول عمرو بن كلثوم منشدا:

أَلا لا يَعلَمُ الأَقوامُ أَنّا

تَضَعضَعنا وَأَنّا قَد وَنينا

أَلا لا يَجهَلَن أَحَدٌ عَلَينا

فَنَجهَلَ فَوقَ جَهلِ الجاهِلينا

نحن العراقيين نبالغ في المديح كما نبالغ في الذم . كنت قد أشرت الى بعض عادات أبناء الرافدين في مواضيع سابقة نشرتها على صفحات صحيفة قريش الغراء. المبالغة حالة عراقية ويمثل جزء أساسيا من الكلام المنطوق والحديث اليومي بين الناس. فهم يبالغون في كل شيء

 فتراه يقول لصديقه:

  • ميت الف مرة قلت لك هذا ، وما سمعت نصيحتي.

وكما يمكن بتضخيم  الرقم الى مليون او عدد من الملايين ،وفي الفترة الأخيرة بدا الناس يتكلمون بـ الترليون، كذلك.

المبالغة باتت سلوكا بين الناس، فهم يبالغون في المديح مثلا ليس فقط على طريقة الشعراء، هذا ابو الطيب المتنبي يمدح الامير سيف الدولة الحمداني قائلا:

وقفتَ وما في الموت شكٌّ لواقفٍ

 وقد خالطت شمَّ الأنوف الصوارمُ

فكنت وما بين الحسامين ضيّقٌ

كأنك في جفن الردى وهو نائم

بل يتعدى الخيال عند العراقي الى مستويات غير منظورة خاصة في مدحهم لرؤسائهم فهم عادة يفدونهم “بالروح والدم”  وعند الشدائد يتبرءون منهم يتركونهم وحيدين في مواجهة مصيرهم. اي فداء او اي رياء كل هذا . لا يزالون ولحد اليوم يمشون على نفس المنوال وأسلوب الإسهاب في المغالاة في المديح او السب والشتيمة وتحقير الاخرين “كسر خشمهم” لا بل أضافوا الى مديحهم في الآونة الأخيرة درجات من القدسية و أوصاف تراثيا أطلقها الناس فقط على النبيين والرسل والصحابة الكرام. قال لي احدهم حين ذكرت له كيف كان هو بالذات يمدح القائد وينعته ب ” حفظه الله ورعاه” ومن ثم أنقلب عليه حين وصل الى المنفى. ومن اجل قبول طلبه في اللجوء أصبح بقدرة قادر مناضلا ويشتم ويسب الجميع. فقال مدافعا عن نفسه:

  • أجبرنا والله على ذلك. 

لكن لم تمر السنوات بعد سقوط النظام واحتلال العراق ، حتى رجع اكثرهم الى اصوله الأولى وفكره القومي البائس ويسمي اليوم تلك الأيام ب ” الزمن الجميل”. ويشتاق الى البدلة الزيتونية وللشعارات الرنانة مرددا ” لأنك العراق”. وينشد بانه سوف يصنع شمسا دون مغيب ( استغفر الله). هناك نماذج كثيرة من هذا النوع والله يرحم الممثل السوري نهاد قلعي وفي شخصية “حسني البورزان” الذي في احدى اعماله كان يغير من مظهره وتسريحة شعره واقواله مع كل مرة يتم فيها تغير النظام السياسي.

Screenshot 2023 12 07 at 13.39.19 - قريش

 المبالغة في الكلام لا يعتبر كذبا في الثقافة العراقية فلو قلنا مثلا :

  • خابرتك الف مرة و ماجاوبت. فهذا يعني فقط هاتفتك اكثر من مره لا غير. 

وهذا ابو فراس الحمداني ينشد قائلا:

إذا مِتّ ظَمْآناً فَلا نَزَل القَطْرُ!

اي ليذهب الجميع الى الجحيم بعد موتي. هذه من الغرور وطريقة تفكير تدل على النرجسية الحادة عند البشر اي حب النفس وتعظيمه. وهي طبعا ان كانت مبالغة مقصودة ام لا فهي في هذه الحالة تجرح شعور الاخرين كذلك. وطبعا هذا هو عين سلوك معظم القادة في الشرق. اي الشعب فقط جسر يمشون عليه للوصول الى غاياتهم ولذلك لا نراهم قط يحللون نتائج أفعالهم ولا يقومون قط بدراسات اولية للخطورة ونقاط القوة والضعف والنتائج المترقبة من قراراتهم حتى لو كان قرار خوض الحرب مع جيرانه او احتلال اراضيهم.

المبالغة نراها في الشعر الشعبي العراقي، وخاصة في الشعر الغنائي. وكما ذكرت تلك المبالغة من باب التحبيب والوله الشديد. نحن نبالغ في الحزن كما نبالغ في الفرح. ايام عاشوراء هي مبالغة في الشعائر وسلبية احيانا لكنها جزء لا يتجزأ من الثقافة العراقية المرتبطة بالظلم وشهداء كربلاء من ال البيت الكرام. الجدير بالذكر ان العراقيين يخرجون بالملايين في مظاهرات لكن في واقع الامر تلك الأرقام المبالغة فيها هي فقط استعراضية. كما يحصل عادة في تظاهرات مناصرة الشعب الفلسطيني مثلا. وحين تنفض التظاهرات يعود كل عراقي الى حالته الطبيعية، ويعود الى بيته فرحا ومرتاح البال والخاطر وفي صوته بحة كأنه فتح بذلك وحرر البلاد.

 تلك حالة وكما ذكرت تكرر دوما في الأفراح والإعراس والمناسبات كلها حتى في مآدب العزاء.  طبعا اثر كل ذلك على اللهجة العراقية مكونا شخصية لغوية مستقلة حيث يعطي الفرد العراقي أهمية كبيرة للجمل التي يجب ان يذكرها ويعرفها عن ظهر قلب في تلك المناسبات (ديباجه).  

كما ترى ان معظم السياسيين ونتيجة لهذه الطريقة في التفكير ليسوا ديمقراطيين وبمجرد صعودهم الى مناصب عالية يحاولون جاهدين البقاء في المنصب معلنا نفسه “الزعيم الأوحد” او سوف ينشر الفوضى والوعيد والتهديد وتصل أحيانا الى الصراع الدموي والقتل وبطرق غير إنسانية بشعة.

المبالغة في الوصف ستفجر الكثيرين من هم يتربعون على كرسي السلطة وينفخون في صدورهم ،حالهم حال تلك الضفدعة التي انفجرت من شدة النفخ و المديح.

الأندلس، 2023

كلمات دليلية
رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com