بقلم المراقب السياسي
كان جاداً للغاية، لكن ما قاله في الميزان السياسي هو مزحة لها ثمن مؤجل. انّه سفير دولة الامارات العربية المتحدة في واشنطن يوسف العتيبة، الذي تنسب اليه هندسة العلاقات مع تل أبيب، ظهر في مؤتمر دولي مهم في أبو ظبي ليتحدث بإشارات توحي انَّ اللعبة تغيّرت وانّ دولة خليجية مثل الامارات تستطيع أن تقول “لا” بالمعنى السياسي للولايات المتحدة، وفي توقيت بمنتهى الجدية.
وقال العتيبة خلال مؤتمر حول صناعة الدفاع والتكنولوجيا والأمن في أبو ظبي “علاقتنا مع الولايات المتحدة مثل أي علاقة أخرى. في أيام (…) تكون علاقة صحية، وفي أيام تكون محل تساؤل”.
وأضاف في اليوم الثاني للمؤتمر “اليوم، نمرّ بمرحلة اختبار جهد، لكنني واثق من أننا سنخرج منها وسنكون في موقع أفضل”.
المزحة السوداء هي ان العلاقة مع الولايات المتحدة تشبه العلاقة مع اية دولة، وهذه اللغة النديّة هي انتقالة في المجاهرة بافتراق المسارات، وليس وقتها المناسب مطلقاً، وكأنَّ العتيبة يؤسس على ما عدته القيادة الإماراتية انتصارا، حين هددت في العام الماضي بإلغاء صفقة كبيرة لشراء طائرات اف ٣٥، بسبب الموقف من الصين، واستوعبت واشنطن تلك اللغة الاماراتية المستجدة، ولم ترد عليها علناً. واليوم، تلعب الامارات في المساحة الامريكية الضيقة من “اللحظة الامريكية الأكثر حراجة”، حين تحاول أن تؤكد استمرارية صلاتها بروسيا في المحفل الدولي الأعلى بالأمم المتحدة ومجلس الامن وفي أوبك بلس حيث الروس والاماراتيون في تفاهمات يومية حول ضبط أسعار النفط وكمية انتاجه، خارج التنسيق او الرضا الامريكي بمعنى أدق.
هناك خط بياني في النزول في العلاقة الإماراتية الامريكية، لكنه ليس قريبا من التدهور، إلا في حالة، انتقل الامريكان في مرحلة مقبلة الى حالة التصنيف الواقفين مع روسيا ولو بكلمة في باب الأعداء، فتلك مشكلة لا تقوى الامارات على مواجهتها، لاسيما انها تترأس منذ أيام قليلة مجلس الامن الدولي، وهي منطقة لم يبدأ اللعب الثقيل فيها، والروس والامريكان لا ينويان تجاهل أهمية اثبات قوة الارادات عبر خنادق الحلفاء والاضداد.
ربّما يجد المراقبون قرينة بين التقارب الاماراتي الإسرائيلي في تحالفات واضحة ابعد من اتفاقية السلام، وبين النزوع الاماراتي للخروج من الثوب الامريكي الذي يطبع الغلاف الخارجي المحيط بأي محتوى اماراتي في الدولة والسيادة والحماية والتسليح وضبط العلاقات مع الجيران الخليجيين او إيران.
الامارات تعوّل على مصادر قوة في يدها الآن، المصدر الأول المال الذي تسعى لبذله من اجل ما تريد ان تصنع عبره شراكات مع الرأسمالية التكنولوجية والعسكرية الامريكية والغربية خارج النمطية القديمة في التعاقد والاستيراد. والمصدر الثاني دورها الإقليمي في عدد من النزاعات والمشكلات الكبرى، كما في اليمن او ليبيا او اثيوبيا. والمصدر الثالث، البوصلة الإسرائيلية المتاحة لها، والتي يبدو انّ بعض الاماراتيين يرون فيها دقة في التصويب نحو الاتجاه والهدف، وأنّ مَن يقتفي أثرها لن يضل طريقه أبدا ،وهذا في المعيار السياسي الدولي المتحول ليس قريبا من الدقة في أي حال من الأحوال.
واشنطن بحثت هموماً دولية في الطاقة والعلاقات مع دولة قطر أيضا، وقطر وضعها في عمق الاحتكاكات الدولية التي مركزها الطاقة هو موقع حساس وربما غير مريح أحيانا لكثرة الاحراجات فيه. وشهدنا استقبال الرئيس الأمريكي جو بايدن في واشنطن الشهر الماضي امير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، في اجتماع وصفه المحللون بأنه استباقي للمتحولات الدولية الجديدة والخطيرة، وكان هناك تركيز على قضية الغاز وتلبية الحاجة الغربية له في ظل مركزية الغاز الروسي المهيمن في اجزاء من أوربا وآسيا، غير انّ الدوحة التزمت طريقا لا يمكن تزكيته بالمثالية ، ويمكن أن نسميه “الحيادية المبرمجة”، في الميل نحو الولايات المتحدة بوصفها ذات أولوية من دون أن تلغي حقوقها في توازناتها مع دول ذات علاقة إشكالية مع الأمريكيين. فضلا عن التغير النوعي في السياسة الخارجية القطرية، والانسحاب من بؤر الصراع ذات التشابك الدولي كما في سوريا، أو اليمن، أو مصر، أو سواها. على عكس سير اتجاه الامارات نحو توكيد الحضور ليس في مشاكل الإقليم المحيط فحسب، وانما في العمق الدولي المرّوع، لا نقول توكيد نشر النفوذ، لأنَّ التجارب أثبتت أنّ الحلفاء الذين يتم شراؤهم بالمال ينقلون البندقية من كتف الى أخرى في أول منعطف مفاجئ.
قد تتيح المناورات السياسية ولغة المصالح وانتقال المليارات لسفير “إشكالي” لدولة الامارات ان يقول أنّ بلاده لديها فيل يطير في أفقها المتاح، لكن ليس بمتناول يده أن يقنع أحداً أنه ذلك الفيل يطير عالياً ويعبر الحدود براحته أيضاً.
عذراً التعليقات مغلقة