مسرحية جزيرة الماعز للمخرج المغربي حفيظ البدري .. أيقونتها موسيقى الجسد

مسرحية جزيرة الماعز للمخرج المغربي حفيظ البدري .. أيقونتها موسيقى الجسد

آخر تحديث : السبت 4 أغسطس 2018 - 9:55 مساءً

الرباط – منير الإدريسي

 

تم  مؤخرا، عرض مسرحية “ثايزيرت أغايذن”، -تعني باللغة الأمازيغية جزيرة الماعز- بالمركب الثقافي لمدينة الناضور المغربية، وهي عمل مسرحيٌّ يضاف إلى رصيد اعمال المخرج المسرحي المغربي حفيظ البدري كما إلى المسرح الأمازيغي المغربي ككل.

hafidelbadri 329121039 - قريش

قدم الفنان أربعة أعمال حتى الآن بالأمازيغية وهي مسرحية ” أوال نتجيرت ” و”مرمي غنبدا ستيدث” و”وتوث نين زو” التي نال بها الجائزة الكبرى من المعهد الملكي الأمازيغي دراماتورجيا وإخراجا. دون أن ننسى رصيده من مساهماته في مسرحيات سابقة بالفصحى والدارجة: قليلا من الحلم”، “حدائق عباد الشمس”، “خايف البحر ليرحل” و”طايطوشة”.

تأتي المسرحية الجديدة استكمالا للعطاء النشط والمتوالي الدافق بالحب للغة الأمازيغية كما لجذوة العشق الأبدي للمسرح الذي منحه حفيظ الكثير من الطاقة والجهد والاهتمام. انعكس ذلك على نشاطه المسئول أيضا كمندوب لوزارة الثقافة بالناضور. حيث عرف الإقليم بفضله أنشطة ثقافية ومهرجانات أنعشت إلى حدّ المدينة ثقافيا، وجعلتها قبلة أحيانا كثيرة للمثقفين، بعد وطأت سنين عجاف من الركود الفني والثقافي.

المسرحية مترجمة عن الإيطالية للكاتب الكبير أوغو بيتي، والذي غالبا ما تمّ ربط مناخ أعماله بالكاتب التشيكي فرانز كافكا. شخّص المسرحية كل من سارة الدريوش ومونية مزاني وسميرة المصلوحي والطيب المعاش.

للوهلة الأولى، من دخولنا زمن العرض ولبساطة الفضاء السينوغرافي تتشبّع الخشبة بروح التقشّف، تذهب العين في كلّ الزوايا لتعود بذات الانطباع. لا استحواذ بهرجي، وبما أننا أمام نصّ مخادع حيث تخفي البساطة عمقاً يحفّزُ على التأمل، يتكفّلُ المخرجُ والدراماتورجيّ حفيظ البدري بما تبقى، بما يتحرّك وبما يسكنُ وبما يومئ. حيث لا تظل سوى الخبرة والحسّ الفنيّ وبعد النظر.

لم يكن من السهل اعتماد مسرحية تنبني على بساطة الحبكة مع العمق الرمزي لجذب المشاهد، لكن التوظيف الجيد واللّعب على المساحات الفارغة فنيّا أبقى التلقي ممكناً، بل تفاعليا ملموسا ربط بين الجمهور والركح حتى النهاية.

تحكي القصة في توالي المشاهد عن ثلاث نسوة شاحبات، بعد رحيل الرجال عن حياتهنّ. يُلمس ذاك الشحوب في ثيابهنّ وحركاتهنّ وأصواتهنّ كما تنطق الاكسسوارات المرافقة بالإيحاء ذاته. نحن هنا في مكان منعزل، بارد، بعيد عن أي صخب، وعن الأحياء، قريب من هواجس النسوة التي تزامنت حركاتهنّ بإيقاع جرس الماعز الذي ربط إلى سواعدهنّ. كل حركة بعد صمت كانت تعني اختلاجاً، شهوة وانفعالا أمام رجل وحيد وغريب يدخل المشهد فجأة ليربك وحدتهنّ، ويثير الصراع المتخفي بينهنّ في إيقاع خافت، يدفع المشاهد إلى ترويض حسّه لقراءة ما تخفيهنّ النسوة في أعماقهنّ، للشعور بأحابيل الغواية التي يرمي بها الرجل هذه المرّة أمام نساء ضعيفات، خائفات، متردّدات، ومسجونات ومتوترات حائرات بين إلحاح الرغبة وكبت المشاعر. تغدو النساء في هذا العمق الرمزي وهنّ مشدودات إلى إيقاع الجرس، كالماعز تماماً. لا وجود للماعز إلاّ في تمثل هذا المعنى القلق، يساعدنا المخرج في فهمه بربطه ببعض الخيوط الدقيقة، والتي هي عبارة عن أشياء بسيطة وأصوات تستحوذ على خلفية اللاوعي.

ينشأ صراع بارد كتوم في الظاهر، ساخن في الداخل، بين النسوة حول الرجل. وللخروج من هذه المحنة تنتهي القصة بترك الرجل السكير في بئر زلت قدمه فيه سهوا. يناجي الرجل النساء، في أعماق البئر، كأنّما تناجيهنّ الرغبة الصارخة، فيقمعنها بأن يتركن الرّجل في قسوة، يموت. القسوة أمام هياج الرغبة سبّبت جريمة في أعماق بئر. هل كانت أعماقهنّ، حيث الآن تقبع الجريمة؟.

يأتي المقص في الحركة الأخيرة في يد إحداهنّ، أكبرهنّ وأقساهنّ وأشدّهن كبحا لجماح الأنثى وارتعاشا وعطشا، ليبترَ. طالما مثّل المقص في مخيالنا الجمعي التهديد ببتر العضو الحميم، بوضع النداء الجنسي في حالة الخرس. تتلوى المرأة ألماً حين تدرك أنّ لا عين تراها من إلحاح الجسد بضم الغريب الذي في أعماق البئر. لكن يكون الوقت قد فات.

أمام بساطة الموضوع وثقله الرمزي يشحذ المخرج كل مهاراته الجمالية، ليقترب من الشّعر. ليمنح للمشاعر الجاثمة في بئر النّفس إمكانية للمس والإيقاع. تدخل الخلفية مع اللسان الأمازيغي ومع حركة الجسد التي يبدو أنّها أخذت اهتماما كبيرا من الجهد لتبسيطها وتوظيفها، انساب فيها الممثلون تحت إضاءة ساكنة ومتوالية. لينح الأداء المسرحي نحو مسحة هادئة إنسانية أكثر وقريبة جدّاً من المتلقي، بقدر بعدها في مجاهل أعماقه.

سكنات وحركات الممثلين ساهمت في هذه المرونة، وقد قُرأ الصمت أكثر من مرّة كفاعل له دور، مثلما الصوت واللازمة التي كانت تصل إلى حدّ الهمس الخفيف لإعطاء بعدٍ أكثر ما نقول عنه توسيعا لمساحة الحواس وتوسيعا للذهن.

اللوحة حاضرة، إنّها عرض تشكيليٌّ يستوحي دلالته من مرجعية جمالية ثرية، فالمخرج فنّانٌ تشكيليٌّ أيضا أقام عروضا باليابان وكندا والإمارات العربية، وإيطاليا. لوحة أيقونتها الجسد البشري الذي يضفي على هيأته بعض السكون، ليسمح ببروز الحركة والنَّفس، والعكس أيضا، إنّ للجسد موسيقى تسمعها العين، الجسد باكسسوارات تضفي بعدا سرياليا خادعاً لأنّه ينشدُّ بسهولة إلى واقعية مُفرطة من الدوافع البشرية التي نألفها. إنّ العمل يشبه قراءة الأعماق، عبر صناعة فرجة تتجاوز الجاهز والمستهلك، أو إثارة عواطف المتلقي على النحو الرّتيب.

نخرج بأنّ الهدف من المسرحية الذي يبدو أنّ المخرج أراده، قد تحقّق. مسرحية أمازيغية قرّبت أبعاد الفكرة وجمالية الإلقاء وفنيته من الجمهور الأمازيغي الذي لا شكّ وأنّه عانق عبر لغته وملامح أهله وعبر قراءة الأعماق الفنّ المسرحي، والفرجة المسرحية، الهادفة إلى إعادة الاعتبار إلى أب الفنون وسط زخم الجاهز السريع والاستهلاكي الذي تنعدمُ فيه قيم المتعة الفنية والإبداع الجمالي المتوثب نحو خلق أفاق وبدائل ممكنة.

======

خاص بصحيفة قريش/ملحق ثقافات وآداب

رابط مختصر

عذراً التعليقات مغلقة

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com