إيمان الرازي
كاتبة من المغرب
حين تُذكر الأمهات، تُضاء في القلب شموعُ الحنين، وتغمر الأرواحَ ظلالُ الخسارة، لكن حين أستحضر وجهكِ يا أمي “هبة”، أشعر كأن قلبي ينكمش، كأن الحياة ذاتها فقدت اتزانها، كأن شيئاً في العالم انكسر ولن يُجبر أبداً. رحلتِ، وأنتِ التي كنتِ تسندين أعمدة أيامي، وأنتِ التي كنتِ تحرسين بكبرياء صامت كل تفاصيلنا، رحلتِ بعد أن زرعتِ فينا حُسنَ التربية، ونُبلَ المقام، ورحابةَ القلب، وعفةَ اللسان. رحلتِ، يا من كنتِ امرأة بألف رجل، بل أكثر، يا من أحبكِ الناس لأنك لم تكوني فقط أمًّا لنا، بل كنتِ لكل من عرفكِ طمأنينةً وصوتَ خير، ونبضَ كرامةٍ لا يهدأ.
ابنة الشاوية أنتِ، من تلك الأرض التي تنبت الكرم والعفة كما تنبت الزرع والماء، تلك الرقعة من الوطن التي لم تكن فقط موطناً للجغرافيا، بل خزّاناً للمروءة وأخلاق السهل الممتنع. كنتِ تقولينها بابتسامة فخر: “نحن ناس الشاوية، نطوي الألم بالصبر، ونخفي التعب خلف الجهد”، وكنتِ البرهان الحي على تلك الكلمات. لم تعيشي لنفسك يوماً، بل كنتِ فينا، ومن أجلنا، ومعنا. وفي كل لحظة، كنتِ تشتغلين، تُعلّمين، تُربّين، تُنصتين، وتغرسين فينا بذور الإنسان الكامل، وترسمين بالهدوء والحنان صورة الأم التي لا تُشبه سواها.
عملتِ في مجال التربية والتعليم وكأنكِ خُلقتِ له، وكأن التربية في حضوركِ لا يكون مهنة بل رسالة. لم تكوني تدرسين فقط دروس اللغة أو الحساب، كنتِ تزرعين القيم في عملك، وتربّين بالقدوة والصبر، وتُعطين لكل من مر بكِ درساً في الإنسانية الرفيعة. كم من تلميذ اليوم يذكركِ بعين دامعة، كم من أمٍّ تُردد اسمكِ امتناناً، وكم من أبٍ لا يزال يذكركِ باحترام من يعرف قيمة المرأة التي لا تهزمها الأيام ولا تغريها المناصب.

كنتِ حنونة… حنونة حدّ الدهشة. تُربتين على أحزاننا بيد من نور، تُخفين قلقكِ حين ترين حزن أحدنا، وتحتوين كل آلامنا بصدر واسع لا يعرف الضيق. كنتِ الحضن الآمن الذي نعود إليه في كل لحظة خوف، والعين التي تسهر حين ننام، والصوت الذي يطمئننا حين يعصف بنا المجهول. كيف يمكن لكل هذا الدفء أن ينطفئ؟ كيف لوجه لا يعرف القسوة أن يغيب في صمت؟ كيف لامرأة مثلكِ أن ترحل دون أن ترتجف لها الأرض؟
وحين سألتكِ ذات يوم، وقد أذهلتني السكينة التي تعمّ بيتنا، عن سر العلاقة الوادعة بينكِ وبين والدي، أجبتني بهدوء الحكماء: “لسنا استثناء يا بنيتي، لكننا تعلمنا أن لا نزرع في قلوب أبنائنا الخوف، وأن لا نجعل من اختلافنا مشهداً أمامهم… كل نقاشٍ أو خصامٍ كان يُطوى في غيابكم، لأنه لا يليق بنا أن نترك لكم سوى المحبة”. تلك الكلمات لم تغادرني يوماً، كانت وصيتكِ الأولى في فهم معنى العيش مع الآخر، كيف يكون الحب أوسع من النزق، وكيف تكون الحكمةُ أمًّا صلبة للبيت.
كنتِ يا أمي هبة من علمتني معنى الوفاء الحقيقي، ذلك الوفاء الذي لا يرتبك أمام تقلبات الزمن، ولا يذبل مع تعب المراحل. منكِ تعلمت الوفاء للمبادئ، وتعلمت أن أظل صادقة مع نفسي، ومع قناعاتي، وأن أحمل انتمائي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية كهوية لا تنكسر، وراية لا تُطوى، حتى في أحلك اللحظات. كنتِ ترددين بصوت يشبه رجع التاريخ: “الاتحاد ليس حزباً فقط، هو مدرسة في النبل والنضال والوفاء للوطن”. علمتني أن الوفاء للحب لا يختلف عن الوفاء للوطن، كلاهما يحتاج إلى الصبر، إلى العطاء الصامت، إلى التضحيات الصافية. وكنتِ على الدوام وفية للجمرة المتقدة التي اسمها الكونفدرالية الديمقراطية للشغل، كنتِ تنتمين إليها كما تنتمي الجذور للأرض، رافضة لأي تقسيم، حاملة لفكرتها كقيمة، حريصة على وحدتها كأنها بيتكِ الداخلي، وكأنها امتداد لوطنكِ الشخصي. ما أعمق هذا الدرس، وما أثقله في زمن التفاهة والانبطاح والانشقاق.
لم أركِ يوماً تشتكين من تعب أو تتبرمين من مسؤولية. كنتِ تحبين كل شيء تقومين به، وتمنحين الحياة بسخاء دون أن تنتظري جزاء أو عرفاناً. كنتِ امرأة لا تطلب، ولا تحتج، ولا ترفع صوتها، لكنّ حضوركِ كان صادحاً، قوياً، يملأ الأمكنة بشموخٍ ناعم، وهامةٍ لا تنحني.
واليوم… أفتقدكِ في كل لحظة. أفتقدكِ في طيف البيت، في رائحة القهوة، في انحناء ضوء الصباح على حواف النافذة. أفتقدكِ حين أكون ضعيفة ولا أجدكِ، حين أحتاج لدفعة من حنانكِ فلا أسمع سوى الصمت. أفتقدكِ في تفاصيل الأيام الصغيرة، في العيد الذي صار بلا طعم، وفي الشتاء الذي صار أبرد. حزني عليكِ لا يشبه أي حزن، هو وجعٌ مقيم، ثقيل، كأن شيئاً في جسدي لم يعد يعمل كما كان.
حين أناديكِ في ذاكرتي، أراكِ تبتسمين، تمسحين على رأسي وتهمسين: “أنا هنا، لا تبكِ يا بنيتي”. لكن الغياب لا يرحم، والفقد لا يُروّض، والاشتياق لا يهدأ. كم أتمنى أن أعود لأراكِ مرة أخرى، أن أقبل يدكِ، أن أقول لكِ شكراً لأنكِ كنتِ أمي، لأنكِ كنتِ الحياة ذاتها.
لن أنسى ما حييت يا أمي هبة. لن أنسى كيف كنتِ، وكيف علمتِ، وكيف أحببتِ، وكيف رحلتِ. رحلتِ جسداً فقط، أما روحكِ، فستظلّ تعانقني كلما ضاق القلب، وستظلّ تربّت عليّ كلما احتجتُك، وسأظلّ أراكِ في خطواتي، في اختياراتي، في صبري وفي حنيني.
اللهم ارحمها بقدر ما كانت رحيمة، واغفر لها بقدر ما غفرت لنا، ووسع قبرها كما وسّعت علينا حياتنا، واجعلها في عليين، في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر.
– إيمان، التي لم ولن تكفّ عن حب أمّها، لأنها كانت وطن القلب وسر الحياة.
مقال خاص لصحيفة قريش – لندن