من نطنز إلى بغداد: ماذا يريد نتنياهو*؟

14 يونيو 2025
من نطنز إلى بغداد: ماذا يريد نتنياهو*؟

د.احمد الرفاعي

بغداد

في ليلة بدت وكأنها تُنذر بانفجار شرق أوسط جديد، أطل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عبر شاشة التلفاز معلنًا بدء عملية عسكرية نوعية ضد المنشآت النووية الإيرانية، حملت عنوان “الأسد الصاعد”. وبينما كانت الصواريخ تتساقط على نطنز وأصفهان وتستهدف معامل تطوير الصواريخ ومراكز الأبحاث الحساسة، كان لافتًا أن منشأة “بوشهر” النووية، الأضخم والأكثر شهرة، بقيت خارج بنك الأهداف. غابت عنها النيران رغم أنها مرصودة منذ سنوات ضمن أولويات الضرب الإسرائيلي. كان هذا التجاهل رسالة بحد ذاته، تشير إلى أن ما يجري ليس مجرد رد فعل عسكري، بل تحرك سياسي عميق يخفي أهدافًا أكثر تعقيدًا.

الخطاب الذي ألقاه نتنياهو لم يكن فقط موجهاً إلى طهران، بل خُطّ بعناية ليصل صداه إلى العواصم العربية والإسلامية. تحدث فيه بلغة انفعالية عن حق إسرائيل في الدفاع عن وجودها، مستخدمًا تعبير “الهولوكوست النووي” ليُضفي على تهديدات إيران بعدًا أخلاقيًا وتاريخيًا يستدعي التعاطف الدولي، لكنه في العمق كان يختبر أيضًا مواقف الدول العربية، ويبعث برسالة خفية: إسرائيل مستعدة لفعل ما لا يجرؤ عليه أحد، وإيران لم تعد حصينة. بدا وكأن نتنياهو لا يهدد فحسب، بل يطرح نفسه كضامن أمني جديد في المنطقة، لا سيما للعرب الذين يتقاسمون مع إسرائيل ذات المخاوف من التمدد الإيراني الشيعي في الهلال الخصيب واليمن والخليج.

اللافت أن العملية العسكرية تزامنت مع تحولات ملحوظة في الموقف الشعبي العربي من إسرائيل، إذ تشير الوقائع إلى أن قطاعات واسعة من الشعوب العربية بدأت تميل إلى تقبل فكرة التعاون مع إسرائيل تحت مبرر “العدو المشترك” والمصلحة الاستراتيجية، خصوصًا مع تصاعد التهديدات الإيرانية. لقد استطاعت إسرائيل أن تُقنع، أو على الأقل أن تُربك، العقل العربي التقليدي الذي كان يرفض في السابق مجرد لفظ كلمة “تطبيع”، لكنها الآن تقدم نفسها كحليف يمكن الاعتماد عليه في وجه الخطر الأكبر. في مقابل هذا، لا تزال إيران، رغم تهديداتها المتكررة، عاجزة عن تنفيذ رد يوازي الضربة التي تلقتها، لا في الميدان ولا في الخطاب، ما يفتح الباب لفرض واقع جديد قد يتبلور على شكل تحالفات غير معلنة لكنها حاسمة.

أما العراق، فهو الحلقة الأضعف والأخطر في آنٍ واحد. فبينما تحاول الدولة الرسمية الحفاظ على سياسة “النأي بالنفس” والحياد الإيجابي، تقف الحركات المسلحة المرتبطة بإيران على أهبة الاستعداد للانخراط في صراع لا يخص العراقيين أصلاً. واقع السلاح المنفلت، وتداخل القرار الأمني والسياسي مع أجندات طهران، يجعل من العراق ساحة مفتوحة لاحتمالات كارثية إذا ما قررت إيران الرد من خلال أذرعها في البلاد. والأخطر أن العراق قد يتحول إلى ضحية صراع لا يملك أدواته، في وقتٍ ما تزال فيه مؤسسات الدولة عاجزة عن تفكيك البنية الميليشياوية أو ضبطها.

إن رسالة نتنياهو ليست عسكرية فقط، بل تحمل ملامح مشروع سياسي أكبر، يهدف إلى إعادة تشكيل التحالفات الإقليمية. وقد تكون الضربة مجرد فاتحة لموجة تحولات قادمة تعيد تعريف “العدو والصديق” في وعي الشعوب والأنظمة. فإسرائيل اليوم تحاول الخروج من موقع الدولة المعزولة إلى موقع الدولة القائدة للأمن الإقليمي، مستفيدة من انهيار الثنائيات القديمة وصعود لغة المصالح. لم تعد القضية الفلسطينية تحكم خطاب الشعوب كما كانت، بل تحوّلت إلى ملف هامشي أمام أولوية الأمن والاقتصاد والسيادة. هذه التحولات تُرخي بظلالها على العراق أيضًا، الذي بات مضطرًا أن يعيد النظر في موقعه من هذا المشهد المعقد.

تاريخيًا، لم تكن إسرائيل غريبة تمامًا عن المنطقة، فاليهود عاشوا في العراق واليمن والمغرب والجزيرة العربية منذ قرون. المشكلة لم تكن في الدين أو القومية، بل في المشروع الصهيوني السياسي الذي ارتبط بالاستعمار والاقتلاع والتمييز. واليوم، حين يعاد طرح مسألة التطبيع، لا تُطرح من باب القبول بإسرائيل كـ”دولة يهودية” فقط، بل كمشروع إقليمي أمني قد يكون فيه للعراقيين فرصة للخلاص من الهيمنة الإيرانية وفرض الاستقرار الداخلي.

في ضوء كل هذا، يبقى السؤال مفتوحًا: هل سيكون العراق ضحية جديدة لهذا الصراع؟ أم أنه قادر على الإفلات من هذه الدوامة؟ ما يجب أن يدركه العراقيون اليوم، أن الحياد لا يعني الصمت، بل يعني تحصين الجبهة الداخلية، وتفكيك السلاح الموازي، والبحث عن تحالفات تحفظ السيادة لا تبيعها. الشرق الأوسط أمام إعادة رسم خرائطه، وقد يكون الصوت القادم من بغداد حاسمًا إن اختار العقل والسيادة على الاصطفاف الأيديولوجي.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاخبار العاجلة
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com