قراءات في المنجز الفني العالمي المعاصر
فنان ألماني يتوسل من الفن دعوة إلى الخلاص..
ودفء رمزي يرمم التصدعات التي خلّفها العالم
الجسد المفكر عند جوزيف بويز:
تأملات في فن الأداء وبلاغة التحوّل المفاهيمي في الفن المعاصر
د. عمر سعدون

فنان تشكيلي وباحث في الفنون المعاصرة
في الموسم الجامعي لعام 2019، دُعيت، بصفتي فناناً ممارساً لفن الأداء وأستاذًا زائراً، إلى تدريس مادة “فن الأداء”. غير أن مهمتي لم تقتصر على نقل تقنيات أو عرض نماذج جاهزة، بل اتخذت شكل مغامرة معرفية مفتوحة هدفت إلى إعادة مساءلة هذا الفن خارج أطره التقليدية.
سعيت إلى تحويل الحصة الدراسية إلى ورشة فكرية حيّة، على غرار ما كان يفعله أستاذنا الجليل فوزي لعتيرس، أحد رواد الفن المعاصر في المغرب، حيث كانت الورشة فضاءً منفتحاً على التفكير النقدي وخلخلة المفاهيم المسبقة.
ومن هذا المنطلق، كنّا ننفذ إلى جوهر الأداء كمنظومة فلسفية وتربوية يتقاطع فيها الجسد بالرمز، ويتحوّل فيها الفعل الفني إلى شكل من أشكال الحفر في طبقات التجريب المفاهيمي.
في بداياتنا اتخذتُ قاموساً عربياً كنتُ أستعمله كسائر الطلاب في زمنٍ سبق ظهور الإنترنت وما تبعه من تطورات في أدوات البحث. كان كل طالب يختار كلمة عشوائياً بفتح “المنجد” بعفوية، مستلهمين في ذلك شيئًا من طقوس الدادائيّة؛ لا لشرح المعاني، بل لإثارة التباسها وزرع الشك في بديهيات اللغة والمعنى. وفتح الممارسة التطبيقية على تأملات في فن الأداء وبلاغة التحوّل المفاهيمي.

كان هدفنا أن نُعيد وصل اللغة بالفعل الجسدي، على نحو ما يعبّر عنه ريتشارد شوسترمان في حديثه عن “الجماليات الجسدية” (somaesthétique)، بوصفها أداة مُربِكة تزعزع الألفة وتكشف ما توارى خلف ظاهر الكلمات. أردنا أن نعيد النظر في الأداء لا بوصفه تقنية استعراضية، بل باعتباره فعلًا كاشفًا، ينطوي على طاقةٍ تأويلية وتجريبية.
امتدت هذه التجربة لما يفوق الأربعين ساعة، عبرنا خلالها تضاريس تجارب أدائية عالمية تنبض بالحياة، رغم بعدها عن المشهد الأكاديمي الرسمي المغربي: من أستر فرير عميدة فن الأداء كما يسميها الإسبان إلى راؤول ماروكين، ومن كليمن بادين إلى آنا مايتي وكارلوس جيفاطا وجولاندا بيريز والأكاديمي فرناندو بالطيميو، فسيفساء من الأسماء والتجارب التي رسمت لنا خريطة فكرية متشابكة لفن الأداء في أوروبا وأمريكا اللاتينية.

وسط هذا التنوع، كان لجوزيف بويز حضور خاص؛ جسد يتأمل، وصوت يُفكِّك، وفنان أعاد صياغة الجسد كأفق فلسفي، لا كمجرد موضوع فني. لم يكن بويز يعرض أداءً بقدر ما كان يمارس نقدًا جذريًا لمفهوم الجسد ذاته، وهو ما يحاكي روحية حركة “فلوكسوس”، حيث يتحول الفن إلى ممارسة وجودية، تتماهى فيها الحياة بالأداء، فإن الأداء عنده اختبار وتمرين «للجسد الفكرة» لا بوصفه ناقلًا صامتًا للمعنى، بل كوسيطٍ فاعل لإنتاجه الحسي والفكري.

تحوّل الجسد في أعمال بويز إلى نصّ مفتوح، يُكتب بالإيماءة، ويتشكل بالصمت، وتتنفس فيه الرمزية عبر الغياب أكثر مما تُقال بالحضور. ففي عمله التنصيبي «ظهور خفي للبيانو» (Infiltration homogène pour piano à queue)، غلّف آلة البيانو باللباد يتوسطه صليب أحمر، نازعًا عنها طابعها الموسيقي، ليمنحها وظيفة رمزية. لم يعد البيانو أداة عزف بل شاهدًا على الصمت، ومجازًا عن العطب الجمعي، حيث يحيل العمل إلى نجاته الأسطورية في الحرب، كما يُستدعى كتعليق رمزي على فاجعة الثاليدوميد، فيصبح الجسد – لا الأداة – موضع المعنى.
وفي أدائه الأشهر “أنا أحب أمريكا، وأمريكا تحبني”، تُولد قصيدة أدائية من صلب الطقس والعزلة، إذ دخل بويز أمريكا معصوب العينين، وحبس نفسه مع ذئب بري لثلاثة أيام، في عزلة طقسية داخل غاليري، معلنًا موقفًا نقدياً من الهيمنة الثقافية الغربية.
الذئب لم يكن رمزًا للوحشية، بل مرآة للآخر المنفي وكائنًا حافظًا لذاكرة التفاوض ما قبل اللغة، حيث الجسد المعزول يصير وسيلة للاتصال الأوليّ، واللقاء يتحول إلى شكل من “الضيافة غير المشروطة”، على نحو ما عبّر عنه جاك دريدا.
أما في عمله القَطيع”La Meute »،سنة 1974، فتتقدّم الزلاجات المحمّلة بأدوات نجاة بدائية كمشهد للهروب والنجاة من خراب العالم. الفن هنا استدعاء لذاكرة الطوارئ ومساءلة لهشاشة الإنسان الحديث، فيما يواصل بويز بلورة مفهومه لـ »النحت الاجتماعي » (Soziale Plastik) : حيث يتحوّل الفنان إلى محفّز رمزي لقوى التغيير، ويغدو الخيال ذاته أداة للتحرر.
ويتجلّى الطابع السياسي لفنه في أداء “Ausfegen” (التنظيف)، حيث ينقلب الفعل البسيط إلى احتجاج ضد اختزال الإنسان في شعارات. فبعد مظاهرة أول مايو، نظف بويز الساحة من مخلفات التظاهر، ثم وزعها داخل غاليري، معلنًا بذلك أن النقاء لا يتحقق عبر الأيديولوجيا بل بالممارسة الحية والمبادرة الحرة.
ترجم بويز هذه الرؤية عمليًّا من خلال تأسيسه لـ “الجامعة الحرة”، ومساهمته في حركة الخضر، ودعوته إلى ديمقراطية تنبع من الذات لا من مؤسسات السلطة. تكرّرت في أعماله استعارات الطفولة، الجرح، والتجدد، “Zeige deine Wunde” (أكشف عن جرحك) حيث يُعاد فتح جرح الطفولة، لا لاستحضار الألم بل كمحاولة رمزية للتطهر.
أما في Celtic (Kinloch Rannoch)، فينصهر الجيلاتين على جسده في طقس مائي كثيف، أشبه بعمادة وجودية تعيد ولادته من رحم الأرض. الجيلاتين بمادته اللزجة والشفافة، يعمل كغشاء فاصل بين الداخل والخارج، بين الذات والعالم، في تكرار رمزي لفعل الولادة. إنها لحظة استبطان عميق، حيث يعود الفنان إلى مياه الطفولة لا ليستعيدها فحسب، بل ليعيد صياغة العلاقة بين الجسد والطبيعة، بين الفرد والكل، في دورة طقسية تمحو الخط الفاصل بين الفن والحياة. إن الجسد هنا لا يُقدَّم كموضوع أداء، بل كوسيط كوني ينخرط في فعل كوني أكبر، حيث الأداء يصبح صلاة جسدية، واحتفاءً بالتجدد والاتصال الجذري مع الوجود.

لقد جعل بويز من الحجر واللباد، من الطقس والجرح، أدوات تشكيل، لا للجمال فحسب بل مساءلة الحقيقة. في مشروعه البيئي بمدينة كاسل، حيث زرع الأشجار إلى جانب كتل حجرية، وهنا نقف عند مفاهيم يتوسل بها كالحياة ،التاريخ، الذاكرة، والفقد. هنا يصبح الفن دعوة إلى الخلاص، إلى دفء رمزي يرمم التصدعات التي خلّفها العالم.
يندرج المنجز الفني عند بويز ضمن ما يُطلق عليه خالد أمين “الفرجة الأورالية”، وهو إطار نظري يربط بين الأداء والطقس، وبين الشفاهة والجسد، بوصف الفرجة فعلًا حواريًا حيًّا يتجاوز التسلية ليغدو مساحة تفاعلية تنتظم في لغة مشتركة بين المؤدي والمتفرج. وفق هذا التصور، لا تُختزل الفرجة في بعدها البصري أو الاحتفالي، بل تُقرأ كبنية ديناميكية قوامها التفاعل الشفهي والوجود الجسدي المشترك، وفي هذا السياق نستعيد الطقوس المغربية: الحلقة، الزوايا، الأسواق… كفضاءات أدائية نابضة ما زالت تحمل بذور الفرجة الأصيلة، رغم ما اعتراها من اختزال فلكلوري وتسليع رمزي.
فكما تشير دراسات الأداء الحديثة، لم يعد الجسد مجرد أداة، بل مجالًا تأويليًّا، تُنقش عليه تحوّلات الوعي، ويُعاد عبره رسم حدود الممكن، وهذا ما يلمح إليه كارلوس تيخو، حين يرى أن الجسد – منذ الستينيات – أصبح مركز التعبير الفني، ومنصة للألم والرغبة والخوف، هنا لا يمثل الجسد بل يتحوّل إلى فاعل مباشر، يهدم الخطابات الرسمية، ويحرّض على مساءلة السلطة.
وحين انقضى هذا التكوين، بدأت بعض البذور تنبت، بخطى حذرة لكن واعدة، حيث انطلقت تجارب طلابية تستعيد الأداء من صلب الموروث، لا كمجرد استلهام، بل كممارسة فنية معاصرة تنبثق من الأرض وتمتد نحو أفق تربوي متحرر، مستلهمة روح المنهج التربوي عند باولو فريري.
وهكذا، يغدو فن الأداء أكثر من درس عابر أو مجرد عرض في زمن زائل، بل فعل كشف، وممارسة تأريخية للكينونة، في لحظات توترها القصوى، إنه دعوة لأن نصغي مجددًا لصوت الجسد كفكر، وأن نستعيد الفن بوصفه أداة للتحرر، ومساحة لتأويل ما لم يُقل بعد.
عناوين أعمال جوزيف بويز.. المرفقة مع المقال هي كالتالي:
– “ظهور خفي للبيانو” ، 1966 – مركز جورج بومبيدو.
– “القَطيع” 1974 – متحف هيسيش لاندس، دارمشتات، ألمانيا.
– ” أنا أحب أمريكا، وأمريكا تحبني”، 1974، غاليري رينيه بلوك، نيويورك، الولايات المتحدة الأمريكية.
المقال خاص لصحيفة قريش – لندن