عطر الكلمات ووهج السياسة: في حضرة العلمي

5 يونيو 2025
عطر الكلمات ووهج السياسة: في حضرة العلمي


د إيمان الرازي 

أستاذة محاضرة بجامعة محمد الخامس بالرباط

كان اللقاء الذي جمعني بالسيد محمد سعد العلمي في منزله بالرباط لحظة مفعمة برهانات الذاكرة ومباهج الفكر، إذ لم يكن مجرد لقاء مجاملة عابر، بل كان موعداً مع التاريخ والإنسان، مع السياسة التي تأبى أن تنفصل عن الأدب، ومع التجربة التي نضجت في صمت، حتى غدت مثلاً يُحتذى في التواضع والنباهة والوفاء لقيم الوطن.

دخلت بيت الرجل وأنا أحمل في قلبي ما يكفي من التقدير لهذا الاسم الذي ظل يتردد في فضاء السياسة المغربية لسنوات، لكنه ما انفك يحتفظ لنفسه بمسافة كافية عن الضجيج والادعاء. وما إن جلستُ في رحابه حتى استشعرت دفء الاستقبال ورقي المقام، فالرجل لا يستقبل ضيوفه إلا كما يستقبل الشعراء أحلامهم، بعين المحب وذوق المتأمل، كأنه يوشك أن ينسج على منوال كل لقاء قصيدةً جديدة في أدب الحوار.

كان محمد سعد العلمي بسيطاً في حديثه، عميقاً في تحليله، يشعّ من كلماته ضوء التجربة وخفة الروح، دون أن تغيب عن نبرته تلك الصرامة الأخلاقية التي عرف بها منذ شبابه النضالي داخل حزب الاستقلال، ومروراً بتجربته البرلمانية والوزارية التي خاضها بصلابة رجل دولة، ومرونة مثقف يعرف أن السياسة لا تصنع على جثث القيم، بل تبنى على نبل الالتزام ورقي الخطاب.

لم يكن الحديث معه حديث ذكريات فقط، وإن بدت حكاياته مرصعة بمواقف تضيء جوانب من تاريخنا السياسي، بل كان قبل كل شيء حديث فكر وقيم ومسؤولية، فالرجل لا يملّ من استدعاء الشاهد العقلي في كل نقاش، ولا يتورع عن نقد الذات والمشهد، بروح منفتحة قلّ أن تجدها في هذا الزمن المطبوع بالخفة والتعالي. كان يرى في السياسة فناً رفيعاً، لا يليق به سوى السمو، وحين يتحدث عن الوطن، تشعر أن الحروف نفسها تتهيّب أن تُقال.

ما أثارني أكثر هو هذا التماهي الجميل بين السياسي والمثقف، بين رجل الدولة وصاحب الكلمة، إذ لطالما اقترنت صورة محمد سعد العلمي عندي ببلاغته الرفيعة، وذاكرته اللغوية التي لا تخون، فهو ممن تشربوا اللغة العربية في منابعها الصافية، وتزينوا بها دون تصنّع، فكانت له زاداً في خطبه، ووسيلة في إدراك المعنى العميق للسياسة، لا مجرد زخرفة لفظية. رجل يكتب كما يتحدث، ويتحدث كما يحيا: بصدق، وبشاعرية نادرة.

لم يكن محمد سعد العلمي من أولئك الذين تستهويهم الأضواء الزائفة، ولا من أولئك الذين غرقوا في بهرجة المناصب، بل ظل وفياً لخط الاعتدال الأصيل، من دون مساومة على جوهر الأفكار. وقد بدا لي خلال هذا اللقاء كم هو متمسك بذلك الوهج الذي ميّز أجيالاً من رجالات الوطن الذين لم تفلح التحولات الكبرى في ثنيهم عن صدق الالتزام، أو في جعلهم يتنازلون عن مبادئهم لصالح حسابات ظرفية أو نزوات شخصية.

تحدثنا طويلاً عن مغرب اليوم، عن التحديات التي تعصف بالسياسة والثقافة، وعن أجيال جديدة تبحث عن المعنى وسط هذا الضجيج العارم. كان متفائلاً رغم كل شيء، يرى أن جذوة الأمل لا تنطفئ متى توفرت الإرادة، وأن الرصيد الرمزي لمن قاوم من أجل بناء هذا الوطن كفيل بأن يكون منارة تهتدي بها الأجيال، شريطة ألا نفرط في ذاكرتنا الجماعية.

انتهى اللقاء كما تبدأ القصائد، دون نهاية حاسمة. ترك في النفس أثراً عميقاً، وفي الذاكرة ملامح رجل نادر، عاش السياسة كما ينبغي أن تعاش: بضمير حي، وبكلمة راقية، وبروح تنتمي للزمن الجميل الذي كان فيه للسياسة وجه إنساني نبيل. عدت من اللقاء كما يعود المرء من مقام صوفي، حيث لا تغادره الرهبة ولا يفارقه الأثر. كنت على يقين أنني التقيت بأحد أولئك الذين يصنعون المعنى، ويؤمنون أن الوطن لا يُخدم بالصوت العالي، بل بالموقف العميق والكلمة المسؤولة.

شكرا للمرأة الفاضلة زوجة الأستاذ العلمي على كرمها الحاتمي النبيل الذي أخجلتني به وبرقيها العالي في حسن التعامل ونبل الاستقبال وقد سعدت جدا بتوقيع كتابي الأخير بالبيت العامر كعربون محبة وصداقة دائمة. 

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاخبار العاجلة
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com