د. عبد العزيز حيون
كاتب وناقد أدبي من المغرب
تأثير الصحراء في روايات محمد سالم الشرقاوي بارز حد كونه أضحى بصمة وجدانية خاصة لا تظهر في مواضيع الروايات وشخصياتها وطبيعتها وتقاليدها وعاداتها ، وإنما أيضا في اللغة المستخدمة و في “جينات”أسلوبه الأدبي التي لم تغيرها حياة الحواضر والمسؤوليات الجسام.
و”الصحراء “في إبداع الروائي والصحافي الدكتور محمد سالم الشرقاوي ،الذي يفتخر بعمق انتمائه للصحراء المغربية وترعرعه في أرجائها وتنفسه هواءها ودبه على أكنافها ، جعلته يطلع بدور “المؤرخ” و”الواصف” العارف والدقيق في وصفه historian of reality أو المؤرخ الواصف The descriptive historian، الذي لا يحصر نفسه في وصف المكان وإنما يعطي العنان لقدرته الفكرية ولقلمه وخياله ربما لتفكيك خصوصيات وخيوط هذا الواقع ويستنطقها ويجعلها في متناول القارئ للاطلاع على هذا البعد الجغرافي العزيز على كل المغاربة .
ويتعدى ذلك محمد سالم الشرقاوي الى تقديم طبق تراثي غني ،بدقة متناهية وتفصيل ذكي ،حول خصوصيات المجتمع الصحراوي وعادات أهله الذي (المجتمع) طوى قرونا من الزمن وهو متشبث بهويته وأصالته ،وأيضا ليبوئ طبيعة الصحراء منزلة خاصة تمكن من فهم التفاصيل وسبر أغوار هذه المنطقة التي لها “استثناءاتها” الطبيعية والتراثية والثقافية والأنتروبولوجية .
حاضنة محمد سالم الشرقاوي الاجتماعية ،الصحراء المغربية ، بقيمها وأسرارها وسلوكيات وأخلاقيات أهلها ،تبرز في أدبيات المبدع لتطلق العنان لأحاسيس داخلية عميقة تحتفظ بكثير من معززات بيئته الأولى ، وهو لا يستسلم تمام الاستسلام لبيئته الحضرية الثانية و يبعد عنه عباءة المستجدات والبيئات البديلة ،من أجل صيانة جوهر إنسانيته كمكون بنيوي يرتبط بالصحراء في كل التفاصيل.
والبعد المخفي في نفسية وتربية محمد سالم الشرقاوي حاضر بقوة في كل كلمة وظفها المؤلف ،مما يعطي الدليل ، على أن دور البيئة في تشكيل ذواتنا مهم جدا ،وأن هذه الأحاسيس “الباطنية ” لا يمكن المناورة عليها لتخرج طوعا في إبداعات أدبية تجعل الأديب ضمن صفوة الكتاب العرب عامة ،الذين ظلوا متشبثين ب”قناعة الانتماء” و”فخر الانتماء” و”الفطرة السليمة”common sense .
إبداع محمد سالم الشرقاوي يجسد فكرة (الإيكولوجيا الأدبية) لجوزيف ميكر ، وهو يأتي في حلة لغوية بهية تتلاءم والمضامين المقصودة ،ليفض ويمزق غشاء عذرية هذا النوع من الأدب على مستوى الأدب العربي كله ،والذي لازال في طور التطور والتبلور ،وهو يؤسس كذلك ،اصطلاحا ، لهذا الأدب الذي اهتم به المبدعون في العالم العربي على نحو ضئيل ،إلا ما استثنينا من الإبداع الشعري الذي صال فيه العرب وجالوا منذ القدم .
وأنت تطلع وتتعرف على تفاصيل روايتي محمد سالم الشرقاوي “إمارة البئر” ،الصادرة سنة 2015 و رواية “قدر الإحساء ” سنة 2022 ،تتلمس إبداعا يمزج بين حس الأديب الخيالي وحسه الصحافي المصر على إيصال الفكرة و المعنى بشكل مباشر ،وهو يطرز نصوصه بمجازات وتشبيهات وأوصاف مشحونة بالدلالات من خلال مفردات تشف عن بيئة ذات ثقافة عميقة لها خصوصياتها ونابتة ومنغرسة في تربة الصحراء المغربية ومتسقة ونابعة من بيئة فريدة لها خصائص متميزة فك خيوطها ليس في متناول الجميع .
كما أن المنجز الأدبي لمحمد سالم الشرقاوي بمسروداته ومؤثثات حكاياته ليس فقط وسيلة للتعبير عن التجربة الإنسانية المعاشة في بيئة صحراوية غنية ومتنوعة ،وإنما هي في حد ذاتها تجربة إنسانية ترتكز على قيم التعدد والتنوع التي تتفرد بها المملكة المغربية ،لتأتي هذه التجربة ،بأدواتها ومفاهيمها ،متمسكة بواقعها لا تنبتُّ عنه ولا تنفصل .
الروايتان تعطيان الدليل أيضا على أن الكاتب سالم الشرقاوي يتحكم في مسالك بيئة صحراوية بكل روافدها ودروبها الثقافية وقناعات أهلها وطباعهم وصفاتهم ونظرتهم “السخية” للحياة ،وبالتالي يستغل قدراته ليساعد القارئ على الانفتاح على عوالم الصحراء المغربية واستيعابها ، وتصور عناصرها المتعددة ، واقتفاء مسالكها وتقيّلها ،وهي العوالم المشبعة بالموروث والعادات والتقاليد حد التمام .
خاصية إبداع محمد سالم الشرقاوي مغايرة لما هو معتاد من الكتابات الأدبية وتحيلك على قدرة ابن الصحراء المغربية البارعة في فن الاختزال والتصوير ونظم السرد وأداء الحوار المركز بمفردات محلية بسيطة ،ما منحنا لغة “سحرية” أنيقة ومؤثرة في ذات الوقت تدفعنا الى الانغماس في بيئة ،وإن كنا لا نعي ونفهم كل حيثياتها ، إلا أننا نستطيع الآن فهم ما تكتنزه من ثراء وغنى سوسيوثقافي .
وفي هذا السياق ،الدكتور محمد سالم الشرقاوي لا يتمتع فقط بأسلوب كتابة جذاب ومثير للاهتمام ينطق بالحقيقة ويقدم التفسير والتوضيح ،وإنما أيضا بالقدرة على استخدام لغة دقيقة وواضحة ومقنعة تجر القارئ الى المعرفة العميقة والى الإحاطة بالاستدلال السببي وتحسين الوعي واستقراء الواقع بكل تجلياته وظواهره بمعناها الشامل.
وفي اعتقادي ، رواية “إمارة البئر” ،الصادرة سنة 2015 و رواية “قدر الإحساء ” سنة 2022 ،تشكل ملامح ما يعرف ب”أدب الصحراء” أو الكتابة الأدبية عن الصحراء تقنع أن الروائي والإعلامي المتمكن أضحى من رواد هذا النوع الأدبي ،ويساعد على التعرف العميق على البيئة السوسيوثقافية الصحراوية ،كأحد روافد الثقافة المغربية الأصيلة ،وعلى نمط العيش في ربوع الصحراء المغربية وعلى كيفية تدبير الشأن المحلي الاجتماعي والمحيط البيئي بحكمة وبعد نظر وروية ،وكذا على دور نساء المنطقة في المحافظة على التراث المحلي و الموروث اللامادي وهي تعتز بانتمائها الحقيقي وتعمل على رفعة شأنه .
ومحمد سالم الشرقاوي الروائي ،يرجع له الفضل ضمن كوكبة من الروائيين البارزين أبناء الصحراء المغربية ،في إغناء ثقافة المغاربة وغير المغاربة وتوسيع فضاء عرض المكتبات المغربية والعربية ، و تسليط الضوء على بعدها الأنتروبولوجي والاجتماعي وخصوصياتها الجغرافية المتفردة ،وكذا في تقريبهم من واقع صحراوي أصيل وغني ومعطاء ،وفي ذات الوقت محافظ وتراكمي .
كما يجسد إبداع محمد سالم الشرقاوي ويستنطق العديد من جوانب الحياة في الصحراء كجزء أساسي من تاريخ وتراث المغرب وإرثه الحضاري الواسع وتنوعه ،ويسمح لنا من فهم المبادئ السامية المحفوظة في تقاليد الصحراء المغربية وقيمها وعاداتها وتفاعلات الفرد مع الخبرات والتجارب الحياتية .
وسرديات الروائي سالم الشرقاوي هي كذلك تجربة أدبية رصينة تتضمن الأحاسيس والتوجهات الشخصية للمؤلف ربما ،وتمكن كذلك من القبض على الخيط الرفيع للدور الحضاري والثقافي لمنطقة الصحراء المغربية ،بما يرسخ انتماءنا الحضاري والثقافي ، ويعزز التواصل الثقافي بين مختلف ربوع المملكة .
محمد سالم الشرقاوي بعد صدور روايتيه ،التي يمكن تصنيفها ضمن “أدب الصحراء”، يزرع البذرة في أرض بكر تعطي ثمرا أدبيا حلو المذاق، وبالتالي على المبدع أن يستمر في هذا العطاء ليعطي محصولا وفيرا يسهل الطريق على القارئ العربي عامة والمغربي بشكل خاص لاكتشاف عوالم “بلا نهاية” من الصحراء ،المرئية وغير المرئية ،ليس في مستطاع القارئ أن يتغلغل في مكوناتها إلا من خلال كاتب محنك ومتمكن من طينة محمد سالم الشرقاوي .
مقال خاص لصحيفة قريش – لندن
