حين يكون الحب مرآة الإنسان الأنصع

9 يونيو 2025
حين يكون الحب مرآة الإنسان الأنصع

..

د.إيمان الرازي

كاتبة من المغرب 

ليس الحب مجرد عاطفة عابرة، ولا رعشة قلب عابثة تمر كما تمر الفصول على أشجار العرعار، بل هو مقام رفيع من مقامات الإنسانية، وشعور يسمو بالروح حتى تغدو كأنها تلامس بأطرافها نور السماوات، ذلك أن الحب الحقيقي لا يُختبر في لحظات الضعف فقط، بل في تلك اللحظات التي يكون فيها أحدنا في أقصى قوته، ثم يختار أن يحنو، أن ينزل من عليائه، لا ضعفًا ولا خضوعًا، بل حبًّا وسموًّا، أن يتخفف من كبريائه ليحمل من يحب على كتفه كوسام لا يُنزع. هو ذلك الرجل الذي ينظر إلى المرأة التي يحبها وكأنها آخر الحصون التي لم يسقطها الزمن، وكأنها نصره الأبهى في عالم مليء بالهزائم الصغيرة والضجيج.

الحب في جوهره احترام، احتضان لصوت الآخر في دواخلنا، إصغاء للأنين المختبئ في زوايا الصمت، تواطؤ جميل بين قلبين يعيشان معا تفاصيل الحياة بتوازي الشعور لا تفوّق أحد على الآخر. هو ذاك الذي لا يخجل من البوح، لا يرى في التعبير عن مشاعره خرقا لرجولته ولا انتقاصا من قيمته، بل يراها تضخ في وجوده ماء المعنى، وتجعله أبهى وأكثر اكتمالا. هو من يكتب لها في آخر الليل رسالة دون أن ينتظر ردًّا، فقط ليقول: “أنا معك”، أو يتصل بها في منتصف النهار ليخبرها أن صوتها موسيقاه، وأن حضورها في حياته ترتيب سماوي لا يُفسَّر.

هو ذلك الرجل الذي إن رآها تنهض من كبوة، احتفى بها كأنها قامت من موت. يسهر على تعبها، لا ليظهر أنه البطل، بل لأنه يحبها بكل ما في الكلمة من معنى، يُسندها كمن يعرف أن سعادته مرهونة بابتسامتها، يدفعها نحو الضوء، لا ليبقى في الظل، بل لأن الضوء إن لم يشملها لا قيمة له في حياته. من يراها حلما يستحق أن يُنجز، لا عبئًا يُخفَّف، من يدرك أن نجاحها لا ينتقص من رجولته، بل يزيده نبلا وشموخا.

الحب ليس مهرجانا من الكلمات المزخرفة، بل صدقُ فعل ونقاءُ نية وثباتُ موقف. هو ذلك الذي يقدّم لها وردة لا في مناسبات السوق بل حين يشعر أن قلبه امتلأ بحنين لا يُحتمل، يركض إلى حضنها كما يركض طفل صغير نحو أمه، ولا يجد حرجا أن يقول لها ببساطة: “اشتقتكِ”، كأن العالم كله متوقف على تلك الكلمة، كأن نبضه لن يستقيم إلا بعد أن يسمع منها صوتا، ضحكة، نفس..، أي أثر يدل على أنها بخير.

هو ذلك الذي يتفقد مزاجها كما يتفقد المرء طقسه الداخلي، لا يثقلها بأسئلته، بل يحضر بحنانه، بحضوره، بإيماءة أو نظرة تُطمئنها أن كل شيء سيكون على ما يرام. من يمنحها الشعور بأنها مرآته الأنصع، أنها الجزء الذي إن اختل فيه شيء، اختلت الحياة برمتها، من ينسج معها أحلاما لا تنتهي، ويحميها لا لأنها ضعيفة، بل لأنها قوية وتستحق أن يزهر من حولها الورد.

من لا يهاب التعبير، من لا يخجل من أن يُمسك يدها في الشارع، أن يقول أمام الملأ: “أنا أحبها”، أن يرسل ورودا في صباحاتها، ويملأ ليلها بالأمان، من لا يخاف أن يكون عاشقا، لأن العشق في تعريفه ليس ضعفا، بل قمة القوة الإنسانية. من يراها وطنا لا يُحتل، وملاذا لا يُفرَّط فيه، وتفصيلا من تفصيلات الحياة لا يكتمل يومه دونه.

هو من يفهم أن الحب ليس تعلقا مَرَضيًّا ولا غيرة قاتلة، بل هو امتلاك راقٍ بدون قيد، أن تشعر أنها حرة في فضائه لكنها مطوّقة بلطف عاطفته، محمية بشغفه، متوجة بتيجان التقدير. من لا يغار من نجاحها بل يزغرد له في أعماقه، من لا يحاول تطويعها بل ينصت لنضجها، من يراها امرأة تستحق كل الاحترام، لأن حبه لها لا ينبني على حاجة عابرة بل على وعي كامل.

الحب في أقصى جماله هو أن تحب من تكمل به المعنى، من يُصقل فيكِ الإنسانة، من يراك في لحظة تعب ويحبك أكثر، لا من ينتظر فقط لحظات البهاء. هو من يُدرك هشاشتك ولا يستغلها، من يُقدّرك لا لأنك خارقة بل لأنك إنسانة. هو من يُغنّي لك دون موسيقى، من يتذكرك في أدق التفاصيل، في أغنية، في رائحة قهوة، في غيمة، في شارعٍ صامتٍ مررتما به معا ذات مساء.

إنه ذاك الذي لا يرى في الحب بطولة، بل شراكة لا تُقاس بالربح والخسارة، بل بمدى الصدق الذي يُضخّ فيها. هو من يحتفل بوجودك، لا لمجرد طقوس المناسبات، بل لأنك حدث عمره الكبير، معجزة حياته البسيطة، وفرادتك التي لا تشبه إحداهن، لأنه حين ينظر إليك يرى تاريخه ومستقبله معا. من إذا انطفأت الدنيا حوله أضاءها بكلمة منك، من إذا ابتعدتِ قليلاً عنه شعر أن النبض بقلبه قد اختلّ.

ذاك هو الحب الذي نبحث عنه، حب يعيد للإنسان إنسانيته، يملأه رقيا وحنينا وسموًّا. حب لا يختبئ في الظلال، بل يخرج إلى الضوء شامخا، حنونا ، قويا، صادقا. هو ذاك الذي إن سألته عنها قال: “هي أنا، لكنها أجمل”، وإذا خيّروه بينها وبين كل ما في الأرض اختارها بلا تردّد، لا لأنها الأجمل في أعين الناس، بل لأنها الأجمل في قلبه.

وما أعظم أن يُحبك من يراك كل يوم كأنها المرة الأولى، من لا تبهت صورتك في عينيه، من يُدهشه حضورك ولو مرّ الدهر، من يجعل الحب طقسا يوميا لا مناسبة عابرة. من يجعل من الحب قيمة لا تنفصل عن الاحترام، ومن التعلق شوقا لا يُذل، ومن المشاركة وعيا لا عبثًا. من إذا غبتِ غابت عنه الدنيا، وإذا حضرتِ نهض العالم كله في قلبه يصفق لكِ.

ذلك هو الحب حين يكون مرآة الإنسان الأنصع….

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاخبار العاجلة
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com