قصة قصيرة
بسّام الطعّان

كاتب من سوريا
بيننا أحزان وأوقات، لا الأحزان تمضي ولا الأوقات ترتاح، وبيننا دروب من حنين وآلام.. وأنت أيها الزمن الموؤد.. تمهل قليلا ولا تتركنا، فهذه (الوردة) تحن إليه وتشتاق.
وأنت يا أيها البعيد، كنت ومضة فرح تحط دون ميعاد بأيامنا، وشوقا يباغتنا في لحظة حلوة، فيبعثرنا من شدة بهجتنا في مدارات الوجود ومجراته.
سافرتَ إلى أعالي الغياب، فحلمنا بأن حقولنا ستصير أكثر اخضرارا، وسمائنا أكثر زرقة، وبأن فضاءاتنا ستتحول إلى فراش وثير تحيط به الأزهار والرياحين.
أتذكر قبل أن تسافر ماذا قلت لنا؟ قلت ونحن نقف على التلة في أصيل ربيعي بديع، والقرية تبدو باخضرارها أروع مكان في الدنيا، قلت و(الوردة) الصغيرة تشهد:
ـ أعاهدكم على ألا يكون بيننا أدنى فراق، وقريبا سأمنحكم أغنيات مضادة للأيام العكرة، وسأسكنكم في مدن ملونة.
ثم أضفت وأنت تمسد شعر الطفلة التي لم تناديها سوى بالوردة:
ـ اهتموا بوردتي في غيابي، وسأعمل على أن أسكنها في بيت على شرفة الجبل، بيت له سقف من قرميد أحمر، يزنره غمام بنفسجي، ترف من حوله أسراب من الأضواء الملونة، وعلى شرفته تتفتح الأودية السحيقة والأفاق البيضاء، وفي هذا البيت ستعزف أجمل الألحان.
هل ما قلته كان في الحلم أم في الحقيقة؟
كبُرت (الوردة) وكبر في قلبها الحلم الشهي والملون، لكن الحلم انكسر وذاب البيت الذي كانت ستهزم به أشجانها الداكنة.
وسافرتَ كما تسافر الريح.
سنوات غبراء مرت، سنوات جفت ضروعها، لا لقاء في أعطاف بيتنا، ولا مطرا هطل علينا، ولأنك وعدتنا، بقينا ننتظر ونحن نسير في أزقة القرية ودروبها، نجمع فيها حزم أحلامنا المسافرة في الهواء، فلا وردتك ولا أنا كان بمقدورنا أن نعيش بلا أحلام، وبقينا نحلم ونحلم إلى أن دمرتَ كل المدن الملونة التي شيدتها في خيالاتنا.
يا لها من عروس اخترتها لنفسك من دون كل نساء الأرض، ولأنها من لحمك ولحمنا، دمك ودمنا، كان فرحنا أكبر من فرحك، لكننا أبدا لم نتخيل أنك ستسقط بين أنياب أفعى على شاكلة زوجة،
وأبداً لم نتوقع حتى في الأحلام، أن ترشك بسمها، وتجعلك تنسى عطفك، حنينك، ضميرك، قيمك، ووعودك الكثيرة.
كنتَ أمل (وردتك) وحلمها، ودواءً لانبلاج أحزانها، وكنت لنا سيمفونية عزفها الوجود على أفواهنا بعد عمرنا المليء بالظلم والخيبات والمرارات.
أسميناك بلادنا وحياتنا وتميمة لزمننا المسروق عنوة، ووردتك أسمتك الفرح الكبير الآتي، ورسمتك بعينيها وعين الشوق إلى عينيك أجمل أمنية وقالت:
ـ إنه عمي ولا يمكن أن ينساني أو ينسى أبي، لأنه الأمل والحامل على كتفه الأيمن جرار من العسل النقي، وعلى كتفه الأيسر باقات من الطيبة والأشياء الجميلة، ولا بد أن يأتي إلينا بحب وحنان، بحب أولا، لان الحنان لا يكبر ولا يدوم دون حب.
لكنك خالفت كل القيم، قاطعت صلة الرحم وقلت عبر الهاتف وبصوت خال من أي شوق أو حنان:
ـ ستأتي زوجتي إلى (تركيا) فاذهبوا واستقبلوها هناك.
كم فرحت الوردة في تلك اللحظة، تحولت في الدار إلى فراشة تطير من زهرة إلى زهرة، ثم تقدمت نحوي وتقدمت معها حقول مضيئة، جلست في حضني قمرا مشعا فأضاءت عمري الغائم :
ـ سآتي معك فانا متلهفة لرؤيتها، وعندما أراها سأضمها بين راحتيّ وأنامل قلبي.
ذهلت من كلماتها فقلت وأنا أذيبها في عمري ليتجدد:
ـ ستكون بينك وبينها تركيا وقصة فرح كبير.
في الصباح المبكر والكون ما زال نائما استيقظت بشوقها العتيد، فصنعنا هي وأنا من فرحنا وشوقنا مركبا، سافرنا ونحن نجلس على مشارف أحلام لذيذة إلى المدينة التي فيها زوجتك.
ويا له من لقاء
فتحنا لها الأحضان، فقابلت الأحضان بالجفاء، وسرعان ما جعلت مصابيحنا شاحبة، أيامنا حيارى، وأحلامنا ملونة بالحسرات.
هل هي امرأة من جحيم؟ فأنا لم أكن كاليتيم على مائدة اللئيم، على الرغم من ذلك قتلت فيّ الرغبة في الحياة. قالت والحقد يلتمع في عينيها ونحن نسير في أحد الأسواق:
ـ النقود التي تريد أن أعطيك إياها أولادي أولى بها.
غمرني ألم لا أفق له ، ألم الروح والجسد الضاوي، بقيت صامتا مذهولا وأنا أرقب موت أشيائي في صمت مجلجل، ولولا أن الوردة نبهتني وأمسكت بيدي لكنت تدحرجت نحو انهياراتي المؤكدة ، لكن الحزن بقي يعلن عن احتلاله لدواخلي ويحيلني على دروب الوحدة والصمت ونهار أكثر بردا، أما هي فلم تبالي بشيء وكأنها قالت طرفة أو نكتة.
كانت تشتري الثياب والألعاب والهدايا لها ولأولادها، ولم تفكر للحظة واحدة أن تشتري هدية للوردة وهي الطفلة الصغيرة، في كل متجر ندخل إليه كنت أرى الدموع في عينيها، وحين رأيت الورود السوداء تنبت تحت قدميها الصغيرتين قلت وأنا أمسك يدها:
ـ لا تهتمي، سأشتري لك ما تريدين.
كم وقفتُ على أرصفة مخضبة بالخجل.
كم وقفت هي على أرصفة بالفخر والتبختر والخيلاء.
كم وقفت الوردة على أرصفة الحيرة والندم.
سافرت زوجتك وتركت فحيحها في آذاننا، ورجعنا أدراجنا إلى القرية ونحن نتبادل الحزن حتى الصمت الأخير.
سيأتي يوم وستقول لك الوردة:
ـ لماذا خانت أصابعك مفاتيح الصول في أول سطر من نوتة القيثارة التي سمّيتها الوردة؟
سنوات أخرى مرت، أخذت منا ولم تعطنا، وأصبحت الطفلة عروسا، ولم تستطع كل ينابيع العالم أن تطفئ عطشها إليك.
تغيرت الأيام، وسرنا فوق رمال حارقة، وتحولنا إلى مظلومين في الحكاية، وحين علم صديقك الذي يعرف معنى القيم، حمل الهاتف ،اتصل بك وهو يظن أنك ستكون الفرح لي، وسكر نبات للوردة، ونهر يشع في أفق لازوردي ومجداف حنون لأخوة (الوردة) لكنك أخرجت من حنجرتك المريضة هذه الكلمات:
ـ أريد أن اغتسل من غبار (سالم) وبلادة أوقاته حتى أنك لم تسأل عن وردتك!
في تلك اللحظة رأيت الغمام يغطي وجه صديقك، لكنه رسم لوحة مصبوغة بالطيبة والبراءة والبكاء، ثم أغلق الهاتف:
ـ يا لهذه الدنيا التي مات الإنسان فيها، ما أبعدني عنها وما أقربها مني.
لم أفهم قصده غير أنني قلت:
ـ لا تهتم ولا تحزن، فأنا سنديان يتعّب الحطابين قبل أن يسقط.
لكن الحزن ظل يتأبط زند مساماته، يراقص جسده، ويلقي به في أعماق القهر، وقبل أن يتركني:
ـ خسارة دموعي على صديق مات فجأة أمامي وكنت أكن له الكثير من الحب.
وكانت (الوردة) في تلك اللحظة تكتب لك بحبر حبها قصائد لا يخلو أي شطر فيها من القـُبل والأفعال الجميلة، ثم كتبت ميثاقا سمّته ميثاق المحبين، فهل تستحق هذا وأنت حقل من صخور لا تراب فيه؟
بسام الطعان
bassamaltaan@yahoo.com