مسرح الجريمة.. تأملات في مجموعة “سرقة موصوفة ” 1
للقاص المغربي مصطفى البعليش
قصص تحت مجهر التفاصيل بأحد مقاهي أصيلة.. ورصد تحولات المكان والذكريات
عبد الصمد مرون

كاتب من المغرب
هل الانسان واحد في جميع أطوار الحياة، أم متعدد متقلب الحال؟ وهل أنه واحد في جميع المراحل.
فلماذا نتبرأ من ذواتنا التي كناها خلال مراحل معينة؟ وكيف نتعجب كيف أمكننا أن نعمل ما عملناه أو أن نقول ما قلناه؟
الأكيد أن الإنسان كما يتغير جسدا يتغير فكرا، تتغير رؤياه وتتغير قناعاته، نعتنق أفكار ثم نهجرها، نؤمن بطرق ثم ننعطف عنها، والإنسان الأديب ليس بعيدا عما تقدم، فلعلك تصادف نماذج تنطبق عليها هذه القاعدة، فدرويش الشاب الذي كان يقف أمام ياسر عرفات وبقية القيادة، ليس محمود درويش الذي يكتب الشعر في زوايا المقاهي في حيفا وغيرها، قصيدة حاصر حصارك لا مفر، ليست هي قصيدة الجلوس منفردا مع الجريدة، ليس معنى هذا الكلام أن أحدهما أفضل من الآخر وإنما هي تقلبات ومد وجزر، صعود ونزول من دون منطق ثابت، غير منطق التحول والتبدل.
وعليه يمكن ان نصل سالمين إلى مربط فرسنا أو مربط كاتبنا، والخلاصة مفادها ببساطة أن كاتبنا مصطفى البعليش، بحكم صداقتنا ومعرفتي الجيدة به وبحكم تعرفي على ما أنتجه خلال فترات طويلة، يمكنني تبعاً لذلك القول إن كاتبنا عاش هذا التحول، بدأ صديقنا مساره فترة الشباب معجبا بمحمد شكري، راقه أسلوبه، وأذهلته عوالمه التي تنهل من كل شيء خارج الذوق العام، والأعراف، فحاول مجاراته، في الكتابة لا في الحياة.

هنا لا بأس من فتح قوس على هامش الموضوع الأساس، وحجر الزاوية في هذا القوس، سؤال وجيه، ما الذي أعجبنا في محمد شكري، الروائي والقاص؟، وما يثير الريبة هو لماذا اكتشفنا شكري من مرآة الآخر؟، ولم نره أول الأمر وهو بيننا؟، هل كان ضروريا أن ينقل لنا شخص مثل الكاتب بول بولز أهمية شكري حتى نقتنع به؟، ولنفترض أن بولز صادق في إعجابه بشكري، فالأكيد أن مصدر هذا الإعجاب لن يكون الأسلوب، ومهارة النسج، وجمالية اللغة، فالرجل لم يقرأ اللغة العربية، وعليه فموطن الإعجاب هو العوالم التي عبر عنها شكري، إذن فالحكم النقدي على شكري حكم ناقص على الأقل، إن لم نقل أكثر من ذلك، فبولز في مشايعته لشكري وتقديمه له للغرب، لم يراعي منطق وأليات النقد والتقويم المعلومة، بل كان يبحث في كلمات شكري ما يمكن أن نلخصه بفكرة “شهد شاهد من أهلها،” شكري هو ذلك الشاهد الذي جاد به الزمن كي يدعم أطروحة الغرب ومن ضمنهم بول بولز، على أساس أن الشرق فضاء غير عقلاني تنتهك فيه حقوق الإنسان وتستباح كرامة الإنسان، ينتشر فيه البغاء بجميع أشكاله، تتجمع فيه مشاهد الكبت وتنتشر في فضاءاته مشاهد الجنس بمختلف أشكاله، شرق يحتاج الغرب يعقلنه ينشر الديمقراطية فيه ويبث الأنوار، ولسخرية هذه الأنوار أنها تتأتي دائما مع الصواريخ الذكية جدا، تأتي في اللحظة ذاتها، هل كان شكري يعلم هذا الكلام فقدم لمخاطبه ما يحب أن يسمعه؟ كالأب الذي يعرف ما يحب الابن فيقدمه له، لعبة أو حلوى. الثابت أن شكري يعرف ما يرغب به الغرب، الأجواء الفرنسية على الأقل، لا لأنه مستشرف للمستقبل قارئ للفنجان والفناجين، ولكن ببساطة لأن هذا الاتجاه كان سائدا ومنتشرا في فرنسا خاصة مع الأدب المغربي والمغاربي المكتوب باللغة الفرنسية، مع الطاهر بن جلون وأمثاله، كل ما في الأمر أن الموضوع انتقل للغة العربية.
هل ابتعدنا عن الموضوع؟ الجواب: لم نبتعد كثيرا، حتى لو سلمنا بالابتعاد، مناسبة هذا الحديث، هو التمييز بين سبب الإعجاب الذي حظي به شكري في الغرب والسبب الذي جعل مصطفي ونحن معه نعجب بشكري، فهذا الأخير ليس ذاك الأول، أعجب مصطفى بشكري الأسلوب السلس في الكتابة، شفافية اللغة، دقة الوصف، ثم عوالم التمرد وإغراء الاكتشاف الذي تمثله عوالم شكري لشاب يبدأ حياته للتو، على أن عوالم شكري في حقيقة الأمر لذة عابرة سرعان ما يتخطاها الإنسان، بمجرد ما تصبح مكرورة نمطية في كامل إنتاج شكري اللاحق.
لذلك لم يستقر مصطفى البعليش بأرض شكري طويلا، فغادرها نحو آفاق أرحب، منها شعر نزار، وروايات نجيب محفوظ والطيب صالح، في هذه الأجواء يجرب صديقنا كتابة المسرح، بوصفه عملا نضاليا وعربون وفاء لصديقه الشاعر “الزيلاشي” الراحل كريم الحماري، جاءت المسرحية بعنوان “أصابع الحلم”، ومع مجيء الأطفال التجأ إلى التزام من نوع آخر، وهو تجريب كتابة تناسب فئة هؤلاء الضيوف الجدد، الأمر يتعلق بكتابة الطفل مع سلسلة اقرأ ولون، وضمت ثلاث حلقات، ولولا أن الأطفال كبروا بسرعة لكانت السلسلة حلقات أكثر مما تتحقق.
وأخيرا جاءت مرحلة القصة مع مجموعة بعنوان ” سرقة موصوفة”، والتي يمكن أن نعدها رد للعجز على الصدر، أو بعبارة أخرى هو رد على ما ابتدأَ منه المسار، هي محاولة لإرضاء الذات في الكتابة، عكس من سلك طريقا آخر يقوم على إرضاء الأخرين، وربما المساهمة في مشاريعهم بوعي أحيانا ومن دون وعي أحيانا أخرى. مجموعة “سرقة موصوفة” حسب ما أزعم توثق الأحاسيس البسيطة الدارجة بين الناس، فهي تارة جلسة صفا رفقة الأصدقاء بأحد مقاهي أصيلة، ترصد لتحولات المكان والإنسان مثاله قصة أنا والذكريات وجها لوجه، ” أستطيع أن أرى الآن برج باب الحومر جيدا. كما أستطيع أن أتبع مسار الصور وإن حجبته اشجار الأوكلبتوس شمالا. وبإمكاني أن أرى القاعدين قربه وهم يولونه ظهورهم…
أستطيع أن أراه كماضي الزمن حيث كان يقام هنا السوق الأسبوعي كل خميس. على هذه الأرض نفسها، وباستطاعتي أن أرى براكة السفانجي وريقي يتذكر لذة إسفنجه. وحديث الإسفنجي مع جاره الإسكافي والذي يطلب من الأول أن يفقص بيضة في اسفنجته كالعادة. كما باستطاعتي أن أُرجع شريط ذكرياتي مع أخي محمد وهو يفرش طاولته قرب الزيداني قبالة سيدي الأصيلي وأنا أعاونه في بيع الزريعة والتركية وبعض الحلويات….2 ، وهي في مناسبة أخرى رحلة قصيرة لطلب الرزق وقصة إلى طنجة، “أجلس على آخر كرسي فارغ في الناقلة وانتظر أن ينطلق السائق دون جدوى…. لم تدر عجلات الناقلة حتى أصبح عدد الواقفين يوازي عدد الجالسين. وكانت وجوه الركاب كالحة متعرقة وكنا كمن حشرنا في حمام “دليهودي”. استرجعت مصاحبتي لتلميذتي لينة وكيف اكتشفت معها سياسة يهود اصيلة في اقتصاد الطاقة فهم قد جمعوا بين الحمام والفران. وجعلوا الأول في الطابق العلوي ليسخن من نار الفران. هكذا كنا نحن راكبوا الناقلة” 3 وفي مناسبة جديدة تخليد لوجوه ساهمت بقسط وافر في تطور حيوات كثيرة، من بينهم الأستاذ عنان والأستاذة نجاة والحاجة زازية المرأة الرمز، ” الحاجة زازية.. نعم من هنا يبدأ تميزها… اسمها الذي لا نظير له…
شخصية قوية لها أربعة رجال وامرأة… عبد الكبير وهو أستاذ مادة العربية بإعدادية الإمام الأصيلي ومصطفى الذي يسمه الشاعر المهدي أخريف بالكتاب ويقرن ذكره به وهو موظف بالمكتبة العامة… والمختار الذي ترك الجمل بما حمل وطلق الوظيفة العمومية ليفتح لنفسه دكانا يقدم خدمات متنوعة منها كراء الدراجات وإصلاحها وشحن البطاريات وأشياء أخرى… وأصغرهم عبد الرحمن وهو سائق سيارة أجرة… بالإضافة لأختهم فاطمة زوجة الروبيو وأم أولاده…4 هكذا يمكن أن نسلم للمبدع مصطفى البعليش بأن مجموعته ينطبق عليها وصف أدب الحياة، فهي تضم بين صفاحتها تفاعلا طريفا بين الإنسان والمكان، ولعمري هذا أعز ما يطلب من الأدب بشتى ألوانه.
يبقى في الختام إشكال طريف ربما نخوض فيه بالتفصيل لاحقا، الأمر يرتبط بتصريح الجاني حسب العنوان، وحسب كلمة ظهر الغلاف، بأنه اقترف فعل السرقة حقيقة لا مجازا، بل إنه أقسم بأغلظ الأيمان بأن المسروق بين دفتي الكتاب، وللحقيقة أقول إنني اجتهدت ما أمكنني ذلك حتى أكشف هذا الجرم، لكن مع الأسف لم أنتهي لشيء ذا بال، فسلمت في النهاية بأن تصريحه هذا إنما يدخل في باب ألاعيب الكتاب، حفظنا الله وإياكم منها.
1- كتاب “سرقة موصوفة”، لمؤلفه الأديب المغربي، مصطفى البعليش – مكتبة سلمى الثقافية، تطوان، الطبعة الأولى 2025
2- المصدر نفسه ، ص 39
3- المصدر نفسه، ص 17
4- المصدر نفسه، ص 42
مقال خاص لصحيفة قريش – ملحق ثقافات وآداب – لندن