قراءات في المنجز الفني العالمي المعاصر
أعمال انطونيو تابييس توثيق للجرح والمقاومة
لا تُشاهَد اللوحة بل تُلمس كندبةٍ على الجسد
بقلم: د.عمر سعدون

فنان تشكيلي وباحث في الفنون المعاصرة
المقال خاص لصحيفة قريش – لندن
في كل مرة تطأ فيها قدماي أرض برشلونة، أشعر أن المدينة لا تستقبلني كما فعلت في السابق بل كأنها تخلع قناعًا لتُريني وجهًا آخر، ليس لأن معمارها تغيّر، بل لأنني أعود محمّلًا بأسئلة جديدة لم أعهدها من قبل.
في هذه المدينة ما يجعلها متفرّدة بين نظيراتها؛ فهي ليست صانعة للفرجة الكروية فحسب، بل صانعة للجمال، تنسجه من الطين والحجر، وتسكبه في الضوء والظل.

هناك مدن لا تُكشف أسرارها في زيارة عابرة، بل تواري طبقاتها في الصمت لمن يُنصت لها، فبرشلونة مدينة متأرجحة بين الأزمنة، ليست مسرحاً للعرض فقط، بل جسرا بين الذاكرة والحداثة، بين الحجر والكلمة، بين المادة وارتجافات الوعي.
في هذه المدينة، لا يظل الفن أسير الجدران، بل يتسرّب من الشرفات، ويتماهى مع الأرصفة، ويتجسّد في الزوايا والواجهات. مِنْ ماريانو فورتوني الذي حمل “معركة تطوان” في لوحات مشبعة بشجن الشرق ودهشة التصادم، إلى أنطوني غاودي، الذي جعل من الحجر حُلماً معمارياً نابضاً، إلى خوان ميرو، الذي استدرج الطفولة والرمز إلى فضاء التجريد.
وسط هذا التعدد، يشدّني عمل تركيبي يتدلّى عند مدخل متحف MACBA: سرير معلّق يحمل توقيع أنطوني تابييس، كلما رأيته شعرت أن الفن قد تجاوز حدوده، وغدا جرحًا ملموساً، ورجفةً تُحَسّ ولا تُرى.

أنطوني تابييس (2012-1923) الفنان الكتالوني الذي نحت لنفسه موقعاً فريداً في سردية الفن الحديث والمعاصر، لم يكن مجرد حامل فرشاة، بل شاهداً على زلزلة الوجود، فمنذ بداياته كان شديد الحساسية اتجاه اضطرابات العالم، فاستخرج من صمت المادة الجريحة لغةً تحتج بخشونتها، حتى أصبح أحد رموز التعبير عن القلق الإنساني في القرن العشرين.
انطلق من خلفية لا تُنبئ بمصيره الفني؛ درس القانون، لكنه سرعان ما هجر عالم التشريع إلى دروب الإبداع، ليؤسس سنة 1948 مع ثلّة من المثقفين الكتالونيين حركة Dau al Set الطليعية، هذه الحركة التي استلهمت منابعها من تصوّف رايمون لول، وموسيقى فاغنر وشونبرغ، وعمارة أنطونيو غاودي المتمرّدة، مثّلت تمرّداً على النمط الأكاديمي الخاضع لنظام فرانكو الاستبدادي، وطرحت بديلاً فنياً يجمع بين السريالية والدادائية. لكن تابييس سرعان ما غادر هذا المسار الجماعي، باحثاً عن أسلوب تعبيري خاص يعكس رؤيته الذاتية.

وكان اللقاء الحاسم في باريس سنة 1951، حيث التقى بكبار الفن الحديث: بيكاسو، براك، شاغال، وجياكوميتي، هناك انفتح على تقنيات جديدة كالخدش (grattage) والتنقيط (dripping)، لتتشكل ملامح ما سيُعرف لاحقاً بـالفن اللاشكلي Art informel حيث تصبح المواد الاولية المتواضعة كغبار الخشب والرمل وبقايا الجدار مرآةً لندوب التاريخ، وجروح الانسانية في أعقاب الحروب.
لم تكن تجربة تابييس ترفاً بصرياً، بل شهادة منسوجة من ألم أوروبا ما بعد الحرب، تنسجم رؤيته مع الفنّ اللاشكليّ لدى الفنّانَين الفرنسيَّين جان فوترْييه وجان دوبوفيه، حيث تتوارى الصورة الكلاسيكية لصالح رمزيّة الحياكات والمواد، لتغوص في الجرح والانتهاك. في هذا النوع من الفن، لا تُشاهَد اللوحة بل تُلمس كندبةٍ على الجسد.

تطوّر المنجزُ الفنيّ لدى تابييس ليُقارع أصنافًا جديدة من الفنون المعاصرة، إذ تجاوز سندَ اللوحة إلى فضاءاتٍ أرحب من خلال تنصيباته، ويتجلّى هذا الأفق الجمالي بوضوح في عمله الشهير Rinzen (رينزن) – وهي كلمة يابانية تعني “الصحوة المفاجئة” – الذي أنجزه ما بين عامي 1992 و1993 لتمثيل إسبانيا في بينالي البندقية، حيث نال عنه جائزة الأسد الذهبي.
يظهر في هذا العمل سريرُ مستشفى ضخم معلّق عموديًّا على جدار المتحف، كأنّه يستدعي هشاشة الجسد الإنساني أمام جبروت التاريخ، تتدلّى منه أغطية وألواح خشبية، وتحيط به صلبان وأرقام وحروف، في مشهد يجمع بين الانكسار والبعث، بين الموت واليقظة، ليس موضعًا للراحة، بل مسرحًا لليقظة الوجودية، حيث يتحوّل السكون إلى صراخ خافت.
هنا يقترح تابييس على المتلقي نوعًا آخر من الصحوة، ليس انتفاضًا جسديًا، بل ارتجاجًا في الوعي. Rinzen لا يتحدث فقط عن ألم شخصي، بل يستحضر فواجع حاضره، كحرب البوسنة والهرسيك و فلسطين و العراق ليرفع نداءً ضد سحق الإنسان تحت وطأة السلطة والاغتراب. إن المادة في فلسفة تابييس، ليست خامة فنية فحسب، بل جسداََ حاملاََ للذاكرة يختزل المأساة.

في Rinzen، يقترح تابييس على المتلقي نوعًا مختلفًا من الصحوة؛ ليست انتفاضةً جسدية، بل اهتزازًا في الوعي، لا يتناول العمل ألمًا فرديًّا فحسب، بل يستحضر فواجع معاصرة كحرب البوسنة والهرسك وفلسطين والعراق، ليرفع نداءً ضد سحق الإنسان تحت وطأة السلطة والاغتراب، وبه تكون المادة في فلسفة تابييس، ليست مجرد خامة فنية، بل جسداََ حاملاََ للذاكرة، يختزل المأساة.
وعلى حد تعبير تابييس نفسه: “كانت الأجسادُ المشوّهة أو المقيّدة بالشيفرات في أعمالي شكلًا من أشكال الاحتجاج على القمع الذي عرفته كاتالونيا، غير أن الألم سرعان ما أصبح رمزًا كونيًّا للظلم الإنساني.”
بمعنى أنّ هذا البُعد الوجودي لم يكن بمنأى عن موقفه السياسي؛ فقد ظلّ مناصرًا لقضية الهوية الكتالونية، ومعارضًا للديكتاتورية الفرانكوية، مستخدمًا فنه منصّةً للاحتجاج الصامت، إذ تظهر في أعماله أجسادٌ مقيّدة ومشوّهة وصرخاتٌ بلا صوت.
إلى جانب إبداعه التشكيلي، كان تابييس صاحب مشروع فكري متكامل. ألّف كتبًا تنظيرية مثل ممارسة الفن (1970)، الفن ضد الجماليات(1974)، والفن وأمكنته (1999)، حيث سعى إلى وصل الفن بالحياة اليومية والسياسة، والوعي المعاصر، كما أسس سنة 1984 “مؤسسة أنطوني تابييس”، وجعل منها منبرًا للتفكير.
وصل أثر أنطوني تابييس إلى المغرب حين احتضنت مدينة الرباط عام 2002 معرضًا بعنوان “تابييس في المغرب: يقينيات محسوسة”، بتنظيم من وزارة الثقافة ومؤسسة سيرفانتيس و شركائه ،وقد عبّر الكاتب والمفكر المغربي إدمون عمران المليح عن عمق تأثير هذا الفنان قائلًا: «لقد خلخل طريقة النظر إلى الرسم». أما الشاعر والوزير الأسبق للثقافة محمد الأشعري، فقد اشار في تقديم كتيب المعرض: »هكذا جاءت لوحته تموج شعرًا، وتمامًا كما في القصيدة، تقوده خبرته الطويلة إلى الاختزال، وتحويل البقايا والمواد البكر إلى موضوعات كجمالية زاهدة… «
أذكر أنني زرت المعرض منهكاً من سفر طويل من أعالي مرنيسة ضواحي تاونات إلى الرباط، ولا تزال تلك الزيارة عالقة في الذاكرة بأعمال مشبعة بالتجريب، ممتدة على أقمشة خشنة وأخرى منسوجة بالرمل، مثقلة بالجراح، ومحاطة بسوادٍ صامتٍ يحتفي بالعفوية والزهد. ولا يزال كتيب المعرض حتى اليوم شامخاً بين رفوف مكتبتي المتواضعة، كأنه يواصل همسه عن فنّانٍ جعل من الجدار مرآةً للوعي.
تُعرض أعماله اليوم في كبريات المتاحف العالمية، من متحف غوغنهايم في نيويورك إلى متحف الملكة صوفيا في مدريد…وقد نال أرفع الجوائز العالمية، ورغم هذا الحضور العالمي، ظل متشبتا بتربته الكتالونية مستخرجاً منها لغةً تشكيليةً وبصريةً تنتج المعنى وتصل الى المتلقي بكل تنوعاته الثقافية و الاجتماعية. في كل مرة أغادر فيها متحف MACBA، أشعر أنني لا أغادره فعلياً، بل أخرج وفي يدي شظية من ذاكرة أخرى، وأسئلة تتكاثر في وجداني عن تابييس ذاك المتمرد وأحد أبرز رواد المعاصرة .
برشلونة كما رآها تابييس، ليست مدينة من حجر وزخارف، بل كيان حيّ تهمس به الأرصفة وتدوّنه الجدران بخط الجراح والرماد، هناك حيث تتجلّى المادة في قسوتها كأفق جمالي، وحيث يتحوّل السرير المقلوب إلى منصة صحو، والمادة المتآكلة إلى قصيدة مقاومة، والمشهد الجريح إلى مرافعة عن كرامة الإنسان، ندرك أن الفن عند تابييس ليس مشهداً يُرى بل تجربة تُعاش وندبة تُلمس وصرخة تنبثق من الصمت.
وعند زيارتي القادمة لبرشلونة، سأقصد مؤسسته لا لأنهي ما بدأته، بل لأتوغّل أكثر في صمت اللوحات، وأقرأ ما تخفيه أعماله، من رسومات وأبحاث لم تكتمل، وأصغي إلى ما لم يُقل بعد في هذا الحوار المفتوح بين الجرح والجمال.
الأشكال:
– شكل:1 عمل Rinzen رينزين تابييس أنطوني،1992، مواد متنوّعة، تنصيب، أبعاد مختلفة، مقتنيات متحف MACABA
– شكل :2 خزانة، تابييس أنطوني،1973، مواد متنوّعة، تنصيب، من مواد متبقية من أنسجة وملابس، مقتنيات متحف غوغنهايم بيلباو .
– شكل :3أنطوني تابييس، “إلى معلّمي كاتالونيا”، 1974،طباعة حجرية ملوّنة (ليتوغرافيا)،حائز على الجائزة الكبرى في الدورة السابعة للمعرض الدولي للفنون الغرافيكية، ليوبليانا، 1967
– شكل 4: صورة شخصية للفنان.