قصص العلمي في”الحلم في بطن الحوت”.. سفر زمكاني رمزي

25 مايو 2025
قصص العلمي في”الحلم في بطن الحوت”.. سفر زمكاني رمزي


د.عبد العزيز حيون 

كاتب وناقد  من المغرب

المقال خاص لصحيفة قريش – لندن  

صدرت للسياسي والوزير والدبلوماسي والحقوقي محمد سعد العلمي مجموعة قصصية موسومة ب”الحلم في بطن الحوت” ،وهي مرويات تنبش من ذاكرة المؤلف سفرا زمكانيا رمزيا وتصوغ ،عبر محطات مختلفة ،واقعا صعبا ومريرا عميقا بالدلالات والتمثلات والحكايات . 

والإبداع الأدبي لمحمد سعد العلمي تبنى على لغة أدبية اختارت من المعجم العربي أبسط التعابير وأقواها ،في آن واحد ، للانتقال بالقارئ عبر وقائع دقيقة ،تارة سياسية حبلى بالألغاز تتحصن خلف أسوار منيعة ،وتارة اجتماعية وأسرية نابعة من واقع صعب ومرير ،إلا أنه يجمع بينها التعبير الرمزي متعدد القراءات والنافذ الى وجدان القارئ .

المجموعة القصصية لمحمد سعد العلمي ،هي عبارة عن سرديات متقطعة ،وإن كانت هي تجربته الأولى فقد جاءت بمنهج فكري خاص ومتفرد بطريقة المعالجة لوقائع سياسية ومجتمعية ،وأحيانا لا ندري أين نصنفها لكنها تحكي عن أحداث فيها العام وفيها الخاص وفيها المستتر والمرموز وفيها الواضح والبين ،وفيها الجرأة في الكلام وفيها الرغبة في التكتم وقول نصف الحقيقة .

ولعل حرص المؤلف ،عن قصد ، على اختيار جمل صغيرة لكنها بعيدة وعميقة المعنى وكلمات تقودك الى الدليل لكنها بمفاهيم شتى ومتنوعة تنبع من قناعاته الذاتية وحرصه ، كسياسي محنك وملاحظ دقيق ،على الاحتياط والاحتراز في الكلام ،لكن مع استعمال تعابير يؤولها القارئ وفق المقصود الذي يتغياه ووفق قناعاته الشخصية وتقييمه الذاتي . 

ورغم أن الكاتب وصف قصصه بمحاولة أدبية “مكتملة الأركان ومستوفية الوصف” وبليغة المعنى وتنقلك الى دروب الفكر وتفرض عليك التركيز لفهم المغزى في رحلات زمانية ومكانية لا تخضع لمنطق التسلسل لسبب نجهله نحن ويعيه المؤلف ،إلا أن القارئ ملزم بتسريح خياله والتمعن في كل عبارة تمر أمام عينيه ،حتى تدخلك في دائرة حديث النفس ،و بالتالي القارئ ملزم بأن يمنحها تفسيرات شخصية ويستجلي الغاية من ذكرها بعيدا عن الإدراكات المألوفة .

ويخيل الى قارئ المجموعة القصيصية ، أو كما أسماها مقدم المؤلف الناقد نجيب العوفي “شذرات قصصية”،أن عليه البحث عن مفاهيم مبطنة ويحفز روح النقد لديه لبلوغ المعاني وليس المعنى ويتخيل أشياء إيجابية وأحيانا أشياء سلبية ،بواقع اجتماعي دقيق وبئيس ، تحكي عن مواقع الإحباط المتنوعة التي رافقت بطل أو أبطال القصص وأدخلتهم في دوامة الحياة أعلاها فسيح وأسفلها ضيق وحيرة ، من أجل أن نشارك الأبطال أفراحهم وأحزانهم وتوجسهم وخوفهم و صدماتهم وحالات الخذلان والخوف لديهم والفضول والوضع المعيشي الصعب واليأس والاكتئاب والضياع وفقدان مشاعر الرفاهية والفرح ،ونصنع معهم أيضا ذكريات يبدو أنها خالدة في عقلهم أو عقل الكاتب لا تفقد بوصلة الأمل ولا تضيع في فضاء البرية الواسع . 

المجموعة القصصية تحمل عناوين بكلمة واحدة يمكن تصنيفها في خانة Power Words (كلمات القوة) لا تحتاج الى شرح مطنب ومسهب ولا ترتدي قناع التستر ك”تفصيل البريق” و”بهلوان” ،و”تعود” و”كابوس” و”تعقب” و”عنف” و”مشهد” و “لوحة” و “فلامينكو” و”ماتادور” ،وهي فعلا بحمولات مختلفة ، تخرجنا أحيانا من مأزق الفهم وأحيانا تدخلنا في نفق جديد يصعب على القارئ البسيط أن يخرج منه وهو يفهم المعنى بوضوح تام .

كما فضل الكاتب استعمال عناوين بجمل مركبة لها مضامين قوية وتصنع حبكة ذكية وتثري المحتوى العام ويشرق منها نور اقتباسات تثير مشاعر قوية في المتلقي وينبثق منها أحيانا التفاؤل وأحيانا التشاؤم دون أن نشعر أو نتوخى ،و من هذه العناوين “الملغومة” و”المشحونة”، مثلا “من يأمن البحر ؟” و”المغص في القلب ” و “موكب رسمي” ،و”واجب عزاء” و”فئران لعينة” و”غرفة مأجورة” و”تهويمات تلميذ” ،وهي كلها تتضمن معاني ملتبسة أحيانا تنحو صوب ملامح الحياة المثالية ومرة الى الحياة المعقدة. 

الاختيار الزمني لقصص محمد سعد العلمي ليس بريئا ولا اعتباطيا في تقديري ،فهو يحيلنا عن قصد على فترات ومراحل عاشها المغرب والساسة وعموم المجتمع ،هناك من يسميها بسنوات الرصاص والجمر والاضطرابات السياسية الثقيلة ،وهناك من يعتبرها أزهى أيام الجدال الديموقراطي العميق رغم تعقده وقسوته ،لكن ما يشفع لتلك الفترة حسب كاتبنا هو أنها حركت بحيرة السياسة الساكنة وأعطتنا فرصة التأويل والمساهمة في تقييم واقع عاش بين الإحباط والتقدم .

وكذلك الاختيار المكاني لم يكن عفويا ولا اعتباطيا ،فتارة ينقلنا محمد سعد العلمي الى الرباط ،محور أغلب قصصه وكيف لا وهي العاصمة ومصدر القرارات وموقع التجاذبات والتدافعات السياسية والفكرية المؤدلجة، وتارة الى إشبيلية وغرناطة لربما لاستذكار قرون من ماضي المسلمين المجيد والتليد ،ولندن والقاهرة لاستعادة زمن داخلي يرتبط بالشخصي والعاطفي والمهني و شذرات من خطاب العشق ،وشفشاون للتواصل الإحساسي مع جذور النشأة وجذور الأصالة وصدى الذكريات .

وتوحي هذه القصص أننا أمام عمل يرتبط بقوة وقصد بذاكرة مكانية وأخرى زمانية مع زوايا إنسانية محددة،منها ما هو مستمر ومنها ما لها بعد ثابت ،ومنها ما يقبع في الوجدان لامسه محمد سعد العلمي على طريق رولان بارت المفكر والمنظر ل”زاوية الحنين” في الكتابة .

وأحيانا يخيل الى القارئ أن بعض تعابير محمد سعد العلمي جاءت ناقصة المعنى وتراوغ ذكاء القارئ حتى لا تخول له إصدار حكم نهائي بشأن قضايا وأحداث ومواقف وأفعال ووقائع وأعمال ومبادرات غيرت مجرى حياته الشخصية وتاريخ البلاد .

فعلا استطعنا بقراءة متأنية لمضمون السرديات أن نحدد معالم تفكير الكاتب ومعالم فترات تاريخية من المغرب وواقع معيشي كبل حلم أسرة أو أسر ،لكننا لم نقدر أن نؤكد إن كانت القصص هي واقع معاش وسيرة ذاتية ،أم أنها تتضمن شخصيات وأحداثا مستوحاة من خيال الكاتب .

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاخبار العاجلة
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com