فلسفة الإسلام في حفظ التوازن البيئي

11 مايو 2025
فلسفة الإسلام في حفظ التوازن البيئي

أ.د. أحمد محمد القزعل

إنّ الإنسان لم يُخلق في هذا الكون عبثاً، بل جاء إلى الحياة لحكمة إلهية عظيمة، ومن جملة مقاصد وجوده أن يكون خليفة في الأرض، مسؤولاً عن إعمارها لا تخريبها وعن حمايتها لا استنزافها، وقد شكّلت العلاقة بين الإنسان والبيئة على مرّ العصور محوراً مهماً من محاور الفكر الديني والحضاري، غير أنّ الإسلام أولى هذه العلاقة اهتماماً بالغاً، فاعتبر البيئة كياناً متكاملاً يتفاعل فيه الإنسان مع سائر المخلوقات ضمن منظومة دقيقة تحفظ التوازن الكوني.

وإذا تأمل الإنسان في هذا الكون الفسيح، في السماء ونجومها، في الجبال والأنهار، في الأشجار والثمار، في الأحياء من حوله، لوجد أن كل شيء يسير بقدر معلوم ونظام دقيق، وكل كائن يؤدي دوره ضمن دورة الحياة الكبرى التي أرادها الله، وفي هذا الإطار قال تعالى: { وفي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 20-21].

إنّ البيئة في المنظور الإسلامي ليست مجرّد محيط مادي يستهلكه الإنسان، بل هي رسالة إيمانية تدعو إلى التأمل والتسبيح، وتوقظ في النفس الشعور بعظمة الله الخالق، وكلما ازداد الإنسان تأملاً فيما حوله، ازداد وعياً بعظمة الخالق، وسمت أخلاقه في التعامل مع الكون والمخلوقات، ولقد كرم الله تعالى الإنسان، ومنحه عقلاً وإرادة، ووهبه نعمة التصرّف في الأرض، فقال: { هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ } [فاطر: 39]، وهذا التمكين لم يكن تفويضاً بالاستغلال المطلق، بل هو تكليف بالمحافظة على الأمانةـ فالخلافة تستوجب الرعاية والتدبير الحسن لا التدمير والإفساد وكما أن الإنسان يحق له الاستفادة من خيرات الأرض، فعليه في المقابل أن يحفظ توازنها ولا يخلّ بقوانينها، ويقول تعالى: { وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا } [الأعراف: 56].

ومن أخطر التحديات التي يواجهها العالم اليوم هي التغيرات البيئية الناتجة عن سلوك الإنسان: الاحتباس الحراري والتصحر وانقراض الأنواع وتلوث الهواء والماء…، وهذه المظاهر لم تنشأ من فراغ، بل هي نتيجة مباشرة لجشع الإنسان وسوء تعامله مع البيئة، وقد توعّد الله تعالى المفسدين بالعقاب، فقال: { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ } [البقرة: 205]، والإفساد في البيئة يشمل كل سلوك يضر بعناصر الطبيعة، سواء كان ذلك بإلقاء النفايات أو قطع الأشجار أو تلويث الأنهار أو صيد الحيوانات دون حاجة أو استخدام المبيدات الضارة، وكلها ممارسات تؤدي إلى اضطراب النظام البيئي وتدمير موارد الحياة.

ولقد أشار القرآن الكريم إلى أن الكون يسير بتوازن دقيق، فقال تعالى: { وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ } [الرحمن: 7-8]، والميزان هنا يشمل جميع أشكال التوازن: المادي والبيئي والاقتصادي والأخلاقي، والتعدي على هذا الميزان يُحدث اختلالاً في الكون ويجرّ على الإنسان الويلات؛ لذلك فإن حماية التوازن البيئي مسؤولية إيمانية تُجسّد صدق علاقة الإنسان بربه.

ولقد جاء الإسلام بمنهج متكامل في المحافظة على البيئة، من خلال مبادئ أخلاقية وتشريعات عملية، منها: الرفق بالمخلوقات، فقال عليه الصلاة والسلام : ” في كل كبد رطبة أجر”، أي أن إطعام أو سقي أي كائن حي له أجر عند الله، وتحريم التعدي على الموارد فحذّر الإسلام من الإسراف حتى في الماء، فقال عليه الصلاة والسلام : ” لا تُسرف في الماء ولو كنت على نهر جارٍ”، كما شجع الإسلام على غرس الأشجار وإحياء الأرض، فقال عليه الصلاة والسلام :”إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها “، ودعا الإسلام إلى نظافة الجسد والبيت والشارع، وجعل إماطة الأذى عن الطريق صدقة…

إن الحفاظ على البيئة لا يمكن أن يتحقق إلا بوجود وعي بيئي نابع من إيمان داخلي وشعور بالمسؤولية، وهذا الوعي يبدأ من الأسرة ويُغرس في النشء منذ الصغر، ويترسّخ من خلال التعليم والإعلام والتربية الدينية، والمسلم الحق هو من يرى في كل سلوك بيئي فرصة للتقرب إلى الله، وفي كل تصرف مسؤول تجاه الطبيعة خطوة نحو بناء مجتمع راقٍ ومتوازن.

إنّ البيئة أمانة في أعناقنا، ومن واجبنا أن نصونها ونسلّمها للأجيال القادمة كما وهبها الله لنا: طاهرة خضراء نابضة بالحياة، فالإحسان في التعامل مع البيئة هو صورة من صور الشكر لله على نعمه وسبب لنيل رضاه ومحبّته، وقد ربط الإسلام بين السلوك الأخلاقي والجزاء الأخروي، فمَن حافظ على البيئة نال ثواباً ومن أفسدها استحق العقاب، إنها دعوة صادقة لكل إنسان أن يكون حارساً أميناً على الأرض، وأن يجعل من سلوكه البيئي ترجماناً لإيمانه وضميره الحي، ولنردد دائماً: ” كما نُعامِل البيئة، تُعامِلنا الحياة” .

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاخبار العاجلة
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com