
هدير الجبوري

كاتبة من العراق
حين يُفتح كتاب، لا تُقلب صفحاته فقط، بل يُعاد ترتيب الزمن في قلب القارئ، وتُبعث الأرواح القديمة من سباتها لتهمس في أذن الحاضر بما كان وما سيكون. وهكذا وجدتُ نفسي أمام مجموعة (آخر الليل …أول النهار) للروائي والقاص العراقي الدكتور فاتح عبد السلام، وكأنني لا أقرأ، بل أعبر ممراً خفياً بين زمنين، أتنقّل على ضوء حروفه بين أطياف الليل وظلال الفجر، بين وجع الكتابة ونشوة الكشف، بين ماضٍ سكنه الكاتب قبل ثلاثة وأربعين عاماً، وحاضر لا يزال ينهل من النبع ذاته.
هذه المجموعة القصصية، هي خطوات البدايات الأولى في تجربة باتت راسخة بعد عقود، والمجموعة الأولى للكاتب مؤلّفة من عشر حكايات، ليست مجرد سرد لحكايات قصيرة، بل هي مشاهد نابضة من حياة مألوفة ومباغتة في آن معاً، تجسّد المشاعر الإنسانية بشفافية جارحة، وتوقظ في القلب خفقة انتماء، وخشوعاً أمام عمق التجربة. يكتب الدكتور فاتح عبد السلام لا ليمرّر حكاية، بل ليكشف عن نبض خفي في الإنسان، عن الحزن المبتسم، والخوف النبيل، وعن الحب الذي لا يُقال، بل يُنزف.

منذ الوهلة الأولى، يُمسك الكاتب بيد قارئه عبر الإهداء؛ إهداء ليس تقليدياً، بل صيحة وجدانية تتجاوز الخاص إلى العام، حين يُهدي الدم المراق في سبيل الحب الأزلي ــ حب الوطن ــ ويصفه لا كجراح، بل كأسطورة تدهش العالم، وتعيد تعريف معنى التضحية.
(آخر الليل …أول النهار) ليس عنواناً فقط
بل اختزالاً لمسار الحياة، وتحوّلات النفس البشرية. هو رحلة مع الكلمات التي وُلدت في زمنٍ بعيد، لكنها لا تزال تتنفس في حاضرنا، وكأن الزمن لم يمض، وكأن الكاتب، وهو يدوّن، كان يكتب للغد أكثر مما يكتب لأمسه.
في هذه القصص، نسمع أنيناً ناعماً لمشاعر منسية، نلمح ظلالاً لإنسان لم يفقد وجهه رغم غبار السنوات، ونشهد ولادة الفجر من عتمة لا تنكر نورها. إنها ليست حكايات، بل مرآة لما يسكننا جميعاً حين نصمت، وحين نشتاق، وحين نكتب….
هذه المجموعة القصصية التي صدرت عام 1982، تشير تواريخ كتابة قصصها الى نهاية السبعينات من القرن العشرين، لا يكتفي الراوي بأن يحكي من خلالها عن حكايات عابرة، بل يغور عميقاً في زوايا النفس البشرية، كمن يدخل دهاليز معتمة بقنديل مشتعل بالشغف والأسى، مستخرجاً من شقوق الروح ما يُقال عادة همساً أو يُكتم خجلاً.
قصص تنقسم على عوالم متباينة، لكنها تتحد في النبرة الداخلية، في الألم الهادئ والصرخة المكتومة.
يبدأ من “نشيد إبراهيم” إلى “الرأس”، مروراً بـالخلوات، وكتلة لزجة تغلي، والاستلاب، والصديقان، والموت المترف، والصورة، والرأس،
وقصص أربع قصيرة جداً تضمنها الكتاب حملت عنوان (صفعات)…

في آخر الليل أول النهار نحن أمام مرافئ إنسانية مأهولة بالخسارات والمقاومة، بالحيرة والإيمان، بالدهشة والتحدي
ربما كتب فاتح عبد السلام هذه المجموعة في عتمة من التأريخ العراقي، أو ربما في توهجه، في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، لكنها كانت تضيء ما هو إنساني محض.
في القصة الأولى (نشيد إبراهيم) نتابع حكاية إبراهيم، التلميذ الصغير الذي أراد أن يصبح منشداً ومغنياً في المدرسة، فيما أمه تنهره وتخوفه من غضب والده إن علم بأنه يغني. في طفولته تلك تأسسَ حبه العميق لوطنه، حتى إذا ما عاد ذات يوم إلى البيت منتشياً، أبلغ أمه أنه صار منشداً كبيراً في المدرسة، وأنه اختير ضمن فرقة الإنشاد فيها
وحين واجه والده الذي علم بما جرى، سأله عن النشيد الذي حفظه لينشده أجابه أنه:
بلادي بلادي بلادي، لك حبي وفؤادي،
وإذا بالأب نفسه ينشد معه بصوت عال، متحمساً.
إنها رمزية لحب الوطن الذي تنامى في قلب الطفل حتى أصبح جندياً لا يتنازل عن واجب الذود عن بلده، يضحي بإجازاته، ولا ينزل لرؤية أهله حتى لا تفوته المشاركة في حماية الوطن.
ويستشهد في الميدان، تاركاً خلفه نشيداً جديداً ألفه وغناه، يستذكره الضابط الذي حضر العزاء، نشيداً عن الحرب والوطن وصرامة أبيه واسم أمه والهم الذي لم يعد هماً…..
ثم تأتي القصة الثانية (الخلوات) عن عبد الرحمن الطفل الصغير ووالدته الأرملة، يسكنان مكاناً بائساً، ينامان في غرفة معدمة لدرجة أن أمه تضع صفيحة بجواره ليتبول فيها ليلاً.
وذات ليلة، دفعه فضوله لأن يتطلع من شرخ في الجدار، فشاهد الجارة أم فاطمة مع أبو فاطمة في لحظة تلاحم جسدي لم يفهمها تماماً.
العالم يتكشف أمام عبد الرحمن شيئاً فشيئاً،
تنصح أم فاطمة أمه أن تتسول في أزقة أخرى حاملة ورقة للمساعدة، كانت أم عبد الرحمن ترفض داخلياً لكنها مضطرة.
يكشف الكاتب كيف يفعل الفقر ما يفعله بالبشر، ويسلب منهم حتى إرادتهم في اتخاذ القرار.
وتنتهي القصة بنهاية مفتوحة، حين ينظر عبد الرحمن من ثقب الباب في أحد البيوتات التي دخلها مع أمه لكنها مالبثت ان غادرت الزقاق بخفة مسرعة وهي تمسك بيده مبتعدة عن الدار التي دخلتها، وقد جرّبت ألا تكون مغفلة، ويتركنا القاص بين الشك واليقين فيما إذا وقعت في الإثم أو لا…
وفي(كتلة لزجة تغلي) وهي القصة الثالثة، التي نشرتها مجلة (الآداب) اللبنانية في مطلع 1979 المهداة لروح شهيدة، نشهد مشهداً متشابكاً بين (وردة) الشابة الجنوبية و(عمران) وقد ظل فستان وردة الأحمر ماثلاً أمامه، حينما تطلع إلى راقصة في ملهى ترتدي ذات اللون.
بين حب قديم وشهوة خاطفة، بين جمال أحبه في وردة، وغانية تتقرب منه ظنّاً منها أنه يشتهيها، تمتد الرمزية العميقة للفستان الأحمر
لون الدم، الانتهاك، والرغبة المكسورة.
يُختطف عمران مع شباب قريته إلى معاقل مسلحة قرب البحر، ولا يحدد الكاتب الزمان أو الجهة، بل يترك الأحداث وكأنها صالحة لكل الأمكنة.
تخشى وردة أن تصل شرارات الحرب لقريتهم، ويحدث ما تخشاه حين يُقتل جدها، ويُقتحم بيتها من قبل مسلح يغتصب حرمة المكان ويحاول الاعتداء عليها. لكنها تقاوم، وتصاب برصاصات خلال مشاجرة بين المهاجم ومسلح آخر وينتهي الموقف بان يظل شرفها مصاناً.
وتنتهي القصة بوردة وثوبها الأحمر، رمزاً للدم والكرامة والانتهاك والمقاومة معاً.
وفي(العنقود ) القصة الرابعة، نتابع حكاية صبي لا تكلّ يداه عن التسلق لقطف عنقود عنب، متحدياً الصبية الآخرين.
هو طائر مذعور من ريح عاتية، يسقط من السياج الذي تباهى بالوقوف عليه، وتنتابه نوبة ندم حين يرى ركبته دامية ووجهه محمر منفعل.
هي قصة التحدي الثائر لولد في أول الصبا، شعر لأول مرة بأنه بحاجة ماسّة للعودة إلى البيت والاحتماء به…
ثم نصل إلى(الاستلاب) القصة الخامسة، قصة ياسر عبد الحق، الطالب المقيم في القسم الداخلي، الذي يعزف على العود، لا حباً فيه، بل وفاءً لوعد قطعه لوالده…
هكذا تصبح الحياة أحياناً التزاماً بشيء لا نرغب به.
ياسر يزور بيت (سمعان) صديق والده، ليعزف له ولعائلته، ويضحك غالباً من وضعه المأساوي.
يريد الكاتب هنا إيصال فكرة أن الإنسان حين يضحك من عذابه، فالعذاب يصبح أكثر قسوة.
تنتهي القصة حين يصبّ ياسر تفكيره على كيفية استعادة كرامته بعد آخر أمسية مذلّة كما رآها وقد قضاها في بيت سمعان، وينزل إلى بائع حمص مسلوق في طرف الشارع، إشارة إلى أن حتى الحمص البسيط يُشعره بأنه حرّ، لا عبد لرغبات الآخرين.
وفي(الصديقان) وهي القصة السادسة يحكي فاتح عبد السلام حكاية رجل يدعى (فرعون) الذي يدخل زنزانة فيها عشرة رجال في مساحة ضيقة لايقوون على أدنى حركة، حيث يلتقي بـ(يوسف) العسكري المتهم بتهريب السجناء وهو رفيقه الجديد في الزنزانة.
يوسف يروي فعلته بصلابة وكان يبكي من أعماقه من شرايين قلبه المنتفضة لكنه جعل شهقات البكاء غصة في قلبه وسكت،
وكان قد التقى بفرعون قبل عام، وأصبحا صديقين حميمين.
الزنزانة تجمعهما مجدداً، أيام من الألم والغربة والرطوبة،
كان فرعون كلما يتذكر زوجته المتوفاة يزداد قلبه وحشة، وكلما تذكر ولديه اللذين تركاه وغادراه الى الخارج يبكي السنين التي أنفقها في تربيتهما، لكنه وجد في يوسف صديقاً وأخاً يتحسس محنته فبات جزء منه على مر الأيام.. حتى يأتي (وليد) ابن فرعون من الخارج، وهو محامي، ويعرض المساعدة.
لكن فرعون يرفض أن يخرج وحده دون يوسف، لأن المسألة عنده هي مبدأ، وجزء لا يتخلى عن جزء آخر كي يطلب منه الذهاب وتركه، وأستخدم الكاتب بعض المفردات لتعزز حسّ الانتماء والخصوصية لدى فرعون الذي عاد للزنزانة وحيداً منخوراً وبكى يوسف لانه لن يشهد حوارا جديدا معه….
ثم تأتي قصة (الموت المترف) عن الجندي خالد الوثاب المُسجى على نقالة خارج الوطن لأغراض العلاج، بيد مبتورة، لكنه مُصرّ أن يُقاتل ولا يُستبعد من جبهة الدفاع عن بلدته.
هذه القصة كما كل القصص غيرها لا تحدد زماناً أو مكاناً، وكأنها تتحدث عن كل الأوطان.
صديقه المترجم أحمد يحاول شرح حالته للطبيب الأجنبي، لكن الأخير يتعامل ببرود، كأن العربي معتاد على الألم.
تتدهور حالة خالد، وقبل إدخاله غرفة العمليات لبتر ساقه، يطلب جهاز تسجيل ليترك رسالة لأحمد يقول فيها:
الموت حالة من المغالاة، أقصاها التداعي المحموم قبل الاحتضار. وما الاحتضار إلا نعمة ينكرها الجميع.
تنتهي القصة بسقوط أحمد مذهولاً داخل الغرفة، يحبو كطفل إلى الخارج، في دلالة مؤلمة على أن حياة الجندي العربي لا تُحتسب كما ينبغي لها من أهتمام.
وتأتي بعدها القصص الاربعة القصيرة جداً، والتي هي أشبه بالومضات الخاطفة التي تخزك كإبرة في خاصرة الواقع، وحملت عناوين (دوار، تحدي، بديل، غفلة).
في (دوار) رجل يدخل حفلاً بمعدة خاوية ورأس فارغ، كأن دخوله كان خطئاً وجودياً، ومواجهة مريرة مع ذاته.
وفي (تحدي) يُطلب من التلاميذ رسم مدفع وطائرة ونار ملتهبة، فيرمز الطفل الذكي لسؤال غائب: أين الأعداء؟ ليجيبه المعلم أن السلاح وحده كافٍ، تلقين لا تَعلُم. لكن صبياً في الزاوية الأخرى يتحدى هذا الإيحاء، بعينين تشك وتشتبك مع الفرض.
في (بديل) نرى أباً يدفع عربة طفله الباكي بعيداً، ثم يضمه فجأة، وفي الخلفية صوت العربة يعلو هديراً. رمزية لمشاعر الأب التي تسبق حتى حركة العربة، ومخاوفه من أن تدهسه قسوته.
أما في( غفلة) فالأم التي تتأمل طفليها الجائعين، وتنسى يديها في التنور حتى تتفحمان، كما يتفحم قلبها حرصاً وجوعاً عليهما…
أربعة مشاهد صغيرة ضمتها هذه القصص لكنها بحجم حياة كاملة.
وما إن يهدأ إيقاع الومضات في تلك القصص القصيرة جدا تأتي بعدها قصة (الصورة) لتضيء جانباً آخر من الحياة، تلك الرغبة الأنثوية الدفينة بأن تكون مرئية، ماثلة في بؤبؤ اهتمام الآخر، لا ظلًا لما تحمله أو تمثّله.
فتاة صغيرة في السن، لكنها أمّ، تحمل طفلها على صدرها وتجلس في عربة قطار، تقابل شاباً رساماً بعينين لامعتين ونظرات تحمل ما يشبه الاعتراف الصامت.
لم يكن بينهما موعد، ولا تخطيط، فقط جلوسٌ متقابل امتد حتى الفجر، ونظرات متبادلة تلوّن الصمت بلغة غير منطوقة، جعلتها تشعر بشيئ غير محدد لكنه مأهول بالإيحاء.
ولما كلّمها أخيراً وقال: تفضلي، انظري ما رسمته…، شعّت في داخلها نار صغيرة من فرحٍ غامض، ظنّت أنه رسمها، أنها كانت مدار عينيه وخياله.
لكنها حين اقتربت، رأت على الورقة صورة طفلها… لا صورتها. هربت غاضبة تاركة خلفها هيجاناً أنثوياً لم يدركه هو كما ينبغي..
في القصة الأخيرة من المجموعة، التي تحمل عنواناً غامضاً ببساطته (الرأس) يأخذنا الكاتب في رحلة حسية عميقة عبر أزقة مدينته القديمة في ظهيرات الصيف الحارقة، حيث لا تهدأ الحركة ولا يغفو الأولاد أبداً.
في هذه الأزقة الضيقة، تلتقي الحياة اليومية برائحة الزمن المنبعثة من الجدران التي تبللها ملامح طفولة صاخبة؛ البول الذي يتركه الأطفال والكبار على حد سواء لم يكن مزعجاً لهم، بل كان جزءاً من نسيج المكان، مشبعاً برائحة حقيقية للحياة نفسها، التي لا تعرف الكلل.
بطل القصة، ذلك الصبي الهارب من قيود المنزل، يجد ملاذه في هذه الأزقة حيث يختلط لعب الأطفال بهدير الصيف والحرارة اللاهبة، وحيث تنتشر ( الدعابل) وهي الكرات الزجاجية الصغيرة والملونة التي تعج بالأحلام والندية، في طقوس لعب مدهشة تتوارثها الأجيال، تصنع من الأرض ملعباً يسوده التحدي والغضب، ومنافسات تتصاعد مع كل رمية وكل تصويب، وكأن الصراع بين الأولاد هو وسيلتهم الوحيدة للحياة والوجود.
في هذا العالم، لا أسماء تُذكر، فالأبطال أسماءهم أفعالهم، ورغباتهم الغريزية في التحرر والتحدي. الصبي الذي لم يُسمَّ يتجول في الزقاق وكأنه يبحث عن شيء أبعد من مجرد اللعب، شيء يفتقده في قلبه أو في البيت الذي يهرب منه. وفي النهاية، يعود ذلك الصبي إلى البيت، حيث ينتظره غضب الأم وهيجان الأب، وصراخ السب واللوم، لكنه يحمل في نفسه سؤالاً لم يُنطق، سؤالٌ مفتوحٌ لا يجيب النص عنه، لكنه يبقى كوشم غائر في ذاكرة القارئ، يشير إلى عمق التوتر الداخلي، وإلى حوار غير مكتمل بين الأب والابن، بين الجيلين، بين الماضي والحاضر.
هذه القصة ليست مجرد وصف لأزقة مدينته، بل هي انعكاس لحياة تنبض بالصراعات الصغيرة والكبيرة، برائحة الصيف الحار، وبأحلام أولاد يلهون وسط رائحة البول والدهشة، وسط تحديات الغضب والحنين لشيء ما مجهول، لكنه يظل حاضراً في صمت الأزقة.
(آخر الليل أول النهار) ليست حكايات فقط، بل هي لحظة الشعور الأولى، حين يهتز الإنسان في داخله، ويجد نفسه مجبراً على أن يكون… أو ألا يكون.
إنها كتابة تتنفس من رئة الإنسان، وتضعنا أمام المرايا التي لا نجرؤ عادة على النظر إليها.
اعتقد ان بدايات الروائي والقاص العراقي فاتح عبدالسلام، جديرة بالمعاينة في فترتها التاريخية، فقد كانت كفيلة في تسلقه المدرج السردي بهذا الصبر والحفر والانجاز.