ديوان “ودثرتني” للشاعر المغربي عبد الحق بن رحمون ..تعبير إبداعي وتشكيل بصري مفعم بالأحلام والحنين والذكريات
بقلم: د. عبد العزيز حيون
بقلم: د. عبد العزيز حيون

كاتب وناقد من المغرب
من الصعب جدا حصر تجربة الشاعر المغربي عبد الحق بن
رحمون في زاوية ابداعية تعبيرية محددة، وهو ما يظهر جليا في ديوانه “ودثرتني “، الذي تناولت قصائده أطيافا حياتية متعددة، انتقلت من قضايا وجدانية وصوفية وعاطفية ووصفية الى السفر والترحال وملامسة عوالم جغرافية وطبيعية بعيدة . كما من الصعب جدا تحديد طريقة وأسلوب تعبير الشاعر بن رحمون، فهو يستعمل تارة صيغ وعبر قرآنية بليغة وينهل من جمال الصياغة في التصادي القرآني لتعميق التأثير والإنفعال، وتارة أخرى يستعمل تشكيلا لغويا وبصرياً خاصاً وتعبيرات عاطفية من قاموس الأحاسيس
والعواطف ليلهب المشاعر والوجدان ويدخلك في عوالم الحزن والكأبة الخرساء .

فالشاعر المتألق بن رحمون يلون شعره بألفاظ مترفة دقيقة، بحيث يجري الشعر على لسانه مجرى السهل الممتنع ، ويعبر بكل جرأة وصدق عن أحاسيس جياشة تنبع من القلب وتصل إلى القلب بلغة مباشرة لا يتهيب الخوض فيها رغم وعورة مسالكها.
الشاعر بن رحمون استمد بعض الصور والمعاني من القرآن بما جادت به قرائحه وقلمه الرشيق كشاعر محنك سبر أغوار النظم الحر منذ عقود من الزمن، كيف لا وهو الذي يعيش في ظلال القرآن الوارفة في مدينة (شفشاون) اشتهرت بعلمائها ومساجدها وعلمائها وفقهائها ويعبق منها أريج الزهد والتصوف، مستلهما العديد من الألفاظ والمعاني والصور المستوحاة من آيات القرآن العظيم وقصصه وحكمه .الاستعارة من جليل معان القرآن وجزيل ألفاظه ومحكم عباراته في مختلف قصائده التي يحملها ديوان “ودثرتني” ، دليل آخر على علو كعب الشاعر واهتمامه الديني و إلمامه واعتداده بكلام الله و إمعانا في تجويد القول وإضفاء الطلاوة والجمال على التعبيرات الشعرية والتشكيلات التصويرية .
ولعل الشاعر يكتسب أكثر صِدقية ما يقول باعتماد تعابير قرآنية معبرة تحبب القارئ إلى جمال الصياغة وتجره جرا الى عمق المضمون، وفي ذات الوقت تسليط الضوء على ما يتوارى في الذات من شعور دفين، ليعطي بذلك لكل قصائده، بدون استثناء ، مزاجا فائقا وتركيبا لغويا تجاوز فيه المألوف بالرغم من أنه ينساق وراء الألم والشعور بالأسى لتغيب الوالدين، وهي مسألة لا يقوى الإنسان على التصدي لها والخلاص منها مهما اختبأ وراء سيرورة الواقع ونبضه الذي لا يتوقف .

ولا يختلف إثنان أن الشاعر بن رحمون من أولئك النخبة النادرة من الشعراء المغاربة الملهمين الذين اتخذوا الشعر وسيلة يومية للتعبير عن معاني عميقة تلامس الوجدان وعن لوعته وحزنه، وهو مضنوك في البحث عن استعارات مناسبة لإخراج المدفونات العاطفية، سواء حين يتعلق الأمر بوالديه أو بـ “محبوبته” المستعارة أو عند الحديث عن السحر الداخلي والولع بمحيطه الجغرافي وعلاقاته الإنسانية البريئة وسرديات الحياة وعالم الذكريات ومحاولة إضاءة عتمة الأحاسيس التي من الصعب الإفصاح عنها دائما .تعجبك في شعر المبدع بن رحمون صدق شعره وواقعيته وما يشتمل عليه من معاني الحب والإخلاص وحتمية الاستسلام للقدر الذي سلب منه من يحب ووسع لديه دائرة الألم، ألم الفراق الذي يتصاعد لهيبه مع هطول الليل وسيادة رهاب الظلام الدامس.
ومع توالي قراءة قصائد ديوان ابن شفشاون عبد الحق بن رحمون ، الذي زينت غلافه الفنانة سناء بزاز ، نكتشف أن شعره يحمل خاصيات تعبيرية حبلى بحرارة التعبيرات اللغوية والجمل الشعرية وبفخامة الألفاظ وبريق الكلمات و إشراقها، وهو يتحدث عن أشخاص يكن لهم كل الحب العميق يحملون صفات حميدة كالحور التي تمثل الجمال الروحي والوفاء .من ناحية أخرى ، أبدع الشاعر بن رحمون في استخدام لغة عاطفية قوية وصور شعرية مؤثرة، ربما حاول من خلالها الشاعر أن يقدم لنا الدليل القاطع بأن الحب الحقيقي لا يتغير بمرور الزمن ولا يمسه الصدأ، بل يظل ثابتا ومستمرا مع توالي السنون، وهو كالماء النقي الذي يروي عطش الروح مهما اختلفت الأزمنة والأمكنة .
ولعل سر جمال القصائد التي جاءت بين دفتي الديوان يكمن في أن الشاعر، بصدقه ورويته وبصيرته ونضجه الأدبي والمعرفي، أحسن التبليغ عن مقصوده بتشبيهات نابعة من قوة الملاحظة وأناقة الإحساس بالمحيط وجعله قصائده باحة رحيبة تنبع منها براعة تصويرية اجتهدت وتفردت في وصف معالم جغرافية متنوعة من الأندلس بعيدة عن موطن الشاعر .وبنفس التميز خاض الشاعر بن رحمون غمار رحلاته، وفي هذا السياق تسلك العديد من قصائد الديوان طريقا إبداعية متفردة ، أسلوبا ومضمونا ، متجلية بخيالات لا حدود لها وبنكهات توصيفية بديعة تعكس دقة الملاحظة لدى الشاعر في وصف الأحداث والتفاصيل، ليصطحبنا معه إلى عالم من المجاز العاتي حتى نعيش لحظة المتعة كما عاشها هو نفسه.
وقصائد المبدع بن رحمون صرخة متقدة لفهم عمق لغة الحياة ونبضها، الحياة بحلوها وانكساراتها التي يجب أن تستمر حتى تمحو ولع الفراق وتلملم الجراح وتنتصر على كل المعاناة وتتمرد على الواقع القميئ وسطوة الحنين.