صباح البغدادي
*إن خور عبد الله ليس مجرد قضية حدود، بل معركة وجود، ومن لا يقف معها اليوم، لا يستحق أن يُعدّ من أتباع الحسين (ع) فأنه قدس الأقداس والذهاب إليه لإعادته أفضل من زيارة الإمام الحسين (ع)؟
في كل عام، يشد العراقيون الرحال إلى كربلاء المقدسة، يحيون زيارة الإمام الحسين (ع)، يستلهمون منه الصبر والتضحية والفداء وقول الحق حتى في حضور سلطان جائر . ولكن، أيُّ خنوع إذا تناسى هذا الشعب قضية خور عبد الله واعادته الى حضن الوطن ، هذا الجرح النازف ما يزال في صدر الوطن لحين انتظار عودته ؟ إن الذهاب من قبل العراقيين إلى خور عبد الله ليس مجرد زيارة سياحية تفقدية ، بل اصبحت فريضة وطنية وشرعية تفوق قدسية الشعائر الحسينية ، لأن من يفرّط بأرضه بهذه السهولة ، يفرّط بمبادئه، بكرامته، بل بعقيدته ذاتها التي يؤمن بها . الوزراء والمسؤولين وكل من له صلة مباشرة أو غير مباشرة في الحكومة العراقية في حينها ، أولئك الذين صادقوا على اتفاقية 2013 المذلة، لم يكتفوا بخيانة العراق عبر بيع خور عبد الله للكويت مقابل حفنة من الرشى، بل أجهزوا على أحلام شعب بأكمله، خنقوا منفذه المائي الوحيد إلى الخليج، وسدّوا أبواب التنمية الاقتصادية والبشرية المستدامة، تاركين الملايين يتخبطون في مستنقع الفقر والعوز والجوع والحرمان . إن هؤلاء المسؤولين والوزراء ، الذين قبضوا ثمن الخيانة دون وخزة ضمير، هم أعداء الوطن الحقيقيون، وجريمتهم تستحق أن تُكتب بحروف خيانة الامانة في سجل التاريخ. أما رجال الدين، فلهم دورٌ لا يُعفيهم من المسؤولية: عليهم أن يهبّوا، أن يحثّوا أتباعهم على نصرة قضية خور عبد الله، لأن الدفاع عن الأرض جزءٌ لا يتجزأ من العقيدة، ومن تخلّى عن تراب وطنه، تخلّى عن إيمانه . نعم، العراق اليوم ضعيف، تتكالب عليه الدول كالذئاب والضباع الجائعة ، لكنه لن يظل راكعًا إلى الأبد. كطائر العنقاء، سينهض من رماده، وكلكامش الأسطوري، سيبحث عن نبتة الكرامة والخلود، ليصدح صوته مجددًا، معلنًا أن خور عبد الله ليس للبيع، وأن العراق لن يساوم على عزته أبدًا.
إن العراق، بتاريخه العريق وشعبه المؤمن، لم يكن يومًا بعيدًا عن صوت رجال الدين الذين شكّلوا ضمير الأمة في أحلك الظروف . في قضية خور عبد الله، تلك الجريمة الوطنية التي ارتكبها وزراء جشعون عام 2013، يقع على عاتق رجال الدين مسؤولية تاريخية لتعبئة الرأي العام، ليس فقط كقادة روحيين، بل كحماة لكرامة العراق وسيادته. إن الدفاع عن الأرض ليس مجرد واجب وطني، بل هو فريضة شرعية دينية لا تقل قدسية عن أركان الإسلام الخمسة ، فمن تخلّى عن تراب وطنه، تخلّى عن جوهر عقيدته. لكن، أين صوت الحوزة الدينية ؟ أين خطب الجمعة التي تهزّ الوجدان و تستنهض الهمم؟ إن صمت بعض رجال الدين اليوم إزاء هذا التفريط المشين بالارض هو خيانة لرسالتهم ، وتقاعسٌ سوف يُسجّله التاريخ.
تاريخ العراق حافل بأمثلة ملهمة لدور رجال الدين في القضايا الوطنية. في ثورة العشرين عام 1920، كان المرجع الديني الكبير الشيخ محمد تقي الشيرازي رمزًا للمقاومة ضد الاحتلال البريطاني. أصدر فتواه الشهيرة التي دعت العراقيين إلى الجهاد، فهبّت القبائل والعشائر، موحدة صفوفها ضد المستعمر، في واحدة من أعظم الملاحم الوطنية. لم يكن الشيرازي وحده، بل وقف إلى جانبه علماء كبار مثل الشيخ مهدي الخالصي، الذي ألهب حماس الجماهير بخطبه النارية. هؤلاء لم يروا في الدفاع عن العراق قضية سياسية فحسب، بل فريضة شرعية إيمانية مقدسة ، لأن الأرض، في جوهرها، هي امتداد للعقيدة.
وفي عصر أقرب، واجه العراق خطر تنظيم داعش عام 2014، فكانت فتوى المرجع الأعلى السيد علي السيستاني بـ”الجهاد الكفائي” شرارة أنقذت البلاد من براثن الإرهاب. تلك الفتوى لم تكن مجرد دعوة للقتال، بل كانت تعبئة وطنية شاملة، جمعت العراقيين من مختلف الطوائف تحت راية الدفاع عن الأرض والعرض. لقد أثبتت هذه اللحظة أن رجال الدين، عندما يتحملون مسؤوليتهم، يستطيعون تحويل الشعب إلى قوة لا تُقهر، قادرة على تغيير مجرى التاريخ.
اليوم، قضية خور عبد الله تتطلب فتوى مماثلة، خطبة تهزّ المساجد، وموقفًا يوقظ الضمائر. على رجال الدين، من الحوزة في النجف إلى منابر بغداد والموصل والبصرة، أن ينادوا بصوت واحد: “خور عبد الله ليس للبيع!” عليهم أن يذكّروا أتباعهم أن التفريط بالأرض هو تفريط بالكرامة، وأن من يساوم على سيادة العراق يساوم على دينه وكرامته . إن السكوت عن خيانة وزراء 2013، الذين قبضوا أثمان الرشى ليخنقوا منفذ العراق المائي، هو مشاركة في الجريمة. ألم يقل الإمام الحسين (ع): “ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين : بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة”؟ فكيف يقبل رجال الدين أن يُركَّز العراق بين التنازل عن خور عبد الله وبين الذل أمام الكويت؟
إن دور رجال الدين لا يقتصر على الخطب، بل يمتد إلى قيادة الحراك الشعبي. عليهم أن يحثوا الشباب على التظاهر السلمي، أن يشرفوا على مسيرات حاشدة نحو الفاو، معلنين أن خور عبد الله هو خط أحمر. على المراجع أن يفتوا بحرمة السكوت عن هذه الخيانة الوطنية، وأن يطالبوا بمحاسبة كل من وقّع على اتفاقية 2013،وكل متآمر قبض ثمن التفريط، فالشعب ينتظر صوت الحوزة الدينية ومراجع رجال الدين بكافة انتماءاتهم ليستعيدوا كرامة العراق المنهوبة.
لقد علّمنا التاريخ أن العراق، مهما ضعف، يملك في أعماقه قوة الإيمان والكرامة. كما نهض في العشرين ضد البريطانيين، وكما انتصر على داعش بدماء أبنائه، سينهض اليوم دفاعًا عن خور عبد الله، مدفوعًا بصوت رجال الدين الذين يجب أن يكونوا في طليعة هذا النضال. إن خور عبد الله ليس مجرد قضية حدود، بل معركة وجود، ومن لا يقف معها اليوم، لا يستحق أن يُعدّ من أتباع الحسين (ع).
وفي الختام وللتوضيح يُعد الدفاع عن خور عبد الله اليوم فريضة وطنية شرعية مقدسة لكل العراقيين بكافة توجهاتهم السياسية والعقائدية دون تميز، وتتخطى وتتجاوز في أهميتها الشعائر الدينية، لما تمثله من رمز السيادة والكرامة الوطنية . وفي هذا السياق، يقع على عاتق رجال الدين مسؤولية حاسمة لتعبئة الرأي العام، عبر ربط العقيدة الدينية بالقضية الوطنية، لإيقاظ الضمائر واستنهاض الهمم. وتجدر الإشارة إلى أن المقارنة التي أوردتها في عنوان المقال ليست محاولة للتقليل من قدسية الشعائر الدينية بأي شكل من الإشكال، بل هي تعبير مجازي مقصود، يهدف إلى لفت الأنظار إلى خطورة التفريط بأرض العراق وممرها المائي الملاحي الاستراتيجي، خور عبد الله، الذي اغتُصب دون وجه حق، في ظل صمت مريب وتخاذل مسؤولين أداروا ظهورهم لمصالح الشعب مقابل فتات الموائد على طاولة اللئام.