ثلاث قصص قصيرة
نشوان عزيز عمانوئيل

كاتب عراقي مقيم في السويد
إهداء //
إلى المفتاح الذي ظلّ يفتح نفس الباب..
إلى من نسوا لماذا جاؤوا إلى ستوكهولم،
لكنهم ما زالوا ينتظرون أن يطرق أحدٌ أبوابهم… حتى وإن كانت بلا مقابض.
رائحة القهوة في شارع سلوسن
ما كنتُ أنوي البقاء طويلًا. جئتُ إلى ستوكهولم مثل كثيرين، بحقيبة خفيفة ونيّة مؤقتة. لكن الزمن لا يحب المؤقت، يجلس إليك بصبر الشيوخ ويقول: “ابقَ، سأريك ما لم ترَ.”
كنتُ أسكن في غرفة صغيرة في الطابق الثالث، بنافذة تطلّ على النهر المتجمّد. وكان كلّ شيء هادئًا حدّ الصراخ، حتى المارة يمشون كأنهم أطياف، لا يتركون ظلاً ولا أثرًا.
في كل صباح، أمشي على قدميّ إلى عملي في محل للبيتزا قرب ضاحية سلوسن. صاحب المحل تركيّ، يحدثني عن إسطنبول وكأنها قرية من قرى الجزيرة، لا عن مدينة. أضحك، وأضع العجينة على الطاولة، وأتذكّر جدّتي حين كانت تفرد خبز الطابون، وتغنّي أغنية لا أعرف معناها لكنها تشبه الدفء.
وفي زوايا ستوكهولم، وجدت أشباحًا تشبهنا: رجل من درعا يبيع الزهور على الرصيف، فتاة من بغداد تمسح الطاولات في مطعم هندي، وصبيّ من تعز يحمل كيس البريد ويوزّعه بنظرة رجل عمره سبعون عامًا. كنا جميعًا نعيش في عاصمة جميلة لكنها لا تقول لنا شيئًا. لا تسألنا عن أسمائنا ولا تهمس لنا بكلمة طمأنينة.
ذات مساء، في عزّ البرد، دخلتُ إلى مقهى صغير يطلّ على محطة ماريتوريت. كانت رائحة القهوة تشبه بيتنا القديم في الموصل ، حين كانت جدتي تحمّص البن على النار وتقول:
“القهوة ما تنشرب إلا مع الحنين.”
جلستُ قرب النافذة، أمامي كوب يتصاعد منه البخار، وخارج الزجاج العالم مغطى بالصقيع. وفجأة، سمعتُ صوتًا دافئًا يتكلم بالعربية، بنبرة يعرفها القلب قبل الأذن. التفتُّ، فوجدت امرأة في السبعين تقريبًا، تلفّ عنقها بشالٍ أخضر وتحدّث شابًا لم أر وجهه. كانت تقول له:
– “ما في شي بيخلينا ننسى، بسّ الوقت بيعلّمنا كيف نتعايش مع الذكرى.”
خرجتُ من المقهى بعد نصف ساعة، ومشيت ببطء. شعرت أن المدينة ليست صامتة كما كنت أظن، بل كانت تستمع لنا طيلة الوقت، تحفظ قصصنا، وربما تبكي في الليل دون أن نراها.
وفي طريقي إلى البيت، مررتُ قرب محطة تي سنترالن، وكانت هناك امرأة سويدية تنظّف الأرضية. نظرت إليّ وابتسمت. فابتسمتُ لها، ثم قلت في سرّي:
“هنا أيضًا، تنبت الأشياء الصغيرة… حتى في الثلج.”
منزلٌ يطلّ على الماء
في ضاحية “هورنستول”، حيث النهر ينام قرب البيوت مثل كلبٍ عجوزٍ وهادئ، كنت أعيش في شقة ضيقة، في الطابق الرابع من بناية رمادية، تطلّ على الجسر الحديدي.
لم أكن أحب النافذة كثيرًا في البداية، كنت أراها مجرد زجاجٍ باردٍ يفصلني عن العالم.
لكن ذات مساء، بينما كنت أحتسي شايًا بلا طعم، لمحت رجلاً مسنًّا، يقف عند السور القريب من الماء، يرتدي معطفًا بلون الطين، ويحدّق في النهر كأنّ بينه وبينه حديثًا قديماً لم يكتمل.
لم يتحرك الرجل طويلاً. ظلّ واقفًا حتى تساقط الثلج، ثم مشى ببطء واختفى بين الأشجار.
سألت عنه في اليوم التالي بفضول غريب. قالت لي امرأة سويدية تعمل في المكتبة:
– “آه… هذا العمّ محمود، جاء من العراق قبل خمسين سنة. يقولون إنه يزور النهر كل مساء، ويتحدث إليه.”
ضحكت.
لكن في داخلي، شعرت بشيء يتحرك. ربما لأنني، مثل محمود، كنت أكلّم أشياء لا تردّ.
بدأت أراقبه من نافذتي كل مساء.
كنت أنتظر قدومه، كأسًا من الشاي في يدي، وقلبًا يشبه منفضة سجائر قديمة.
وفي أحد الأيام، قررتُ أن أنزل.
اقتربتُ منه، قلت له:
– “السلام عليكم، عمّ محمود.”
فالتفت إليّ، وقال ببساطة:
– “ما شاء الله… من وين؟”
قلت: “من العراق.”
فابتسم، وقال:
– “نحن أولاد الطين… الغربة فينا من زمان.”
جلسنا معًا على كرسيّ خشبي قديم. النهر كان صامتًا، لكنّه ينصت.
قال:
– “تعرف؟ أنا جيت هنا شاب… اشتغلت في الميناء، تعلمت اللغة، نسيت لهجتي، ثم نسيت حتى صوت أمي.
بس في الليل… في الليل، لما أغمّض عيوني، أسمعها تقول لي: ‘قم… الدنيا صبح.'”
سكت.
ثم أخرج من جيب معطفه قطعة تمر ملفوفة في ورقة جريدة سويدية، ومدّها إليّ.
قال:
– “عشان تتذكّر…”
أخذتُ التمرة، أكلتها، فشعرت أن الطين عاد إلى فمي، وأن صوت أمي يعود، وأن بغداد، والموصل، والخرطوم، وكرمكول، كلها تتجمع على ضفة واحدة.
منذ ذلك اليوم، وأنا أذهب إلى السور كل مساء.
أحيانًا يأتي عمّ محمود، أحيانًا لا.
لكنه علّمني أن الغربة ليست مكانًا، بل لحظة فقدٍ لا تنتهي…
وأن النهر، مهما تغيّرت المدن، يبقى صديق الغرباء.
الساعة في جيب المعطف
في شارع صغير خلف ميدان سودرتاليا ، حيث البيوت الملونة تتعانق كأخواتٍ خائفات من النسيان، كنتُ أسكن في غرفة مستأجرة، تُطلّ على ساحة خالية، فيها شجرة واحدة تبدو وكأنها شاخت قبل أوانها.
كان الشتاء قاسيًا، والمطر لا ينهمر بكرم، بل يلدغ الزجاج بشحّ المتعبين.
كل مساء، أخرج دون سبب واضح. أمشي حتى ينقطع الدفء من أطرافي، وأتوقّف عند دكّان قديم يبيع كتبًا مستعملة.
هناك، رأيته لأول مرة.
رجل في الستين، ببدلة مهترئة من صوفٍ رمادي، يحمل حقيبة جلدية سوداء، كأنها تحتوي على شيء أثقل من الأوراق. كان يدخل المتجر ويخرج دون أن يشتري، يقرأ العناوين، يتأمّل الأغلفة، ويبتسم كمن يحادث صديقًا غائبًا.
كنتُ أتابعه من بعيد، حتى جاء اليوم الذي سألته فيه، دون مقدمات:
– “لماذا لا تشتري؟”
فنظر إليّ وقال:
– “اشتريت ما يكفيني منذ زمن، الآن أزور الكتب القديمة لأطمئن عليها.”
ضحكت. فابتسم وقال:
– “وأنت؟ من أي زمن أتيت؟”
قلت:
– “من زمن لم يعد يعرف كيف يكتب.”
فأومأ برأسه، كأنّ الجواب لم يفاجئه.
في اليوم التالي، وجدته جالسًا على المقعد الخشبي أمام المكتبة. كانت يده تعبث بساعة جيب قديمة، يفتح غطاءها وينظر إلى عقاربها كمن ينتظر شيئًا لن يحدث.
قال لي:
– “أهداني إيّاها رجل اسمه بشير، التقينا في برلين عام ٨٢، وظن كلٌّ منّا أنّ الآخر لن يبقى حيًا. الساعة هذه لا تعني الوقت… بل اللحظة التي نعيشها، ثم نفقدها دون أن نعرف أنها كانت الأهم.”
ثم سلّمني الساعة، وقال:
– “احملها معك، حتى تتذكّر أن كل ما نعيشه قابل للانتهاء، حتى القصص التي لا نرويها.”
أخذت الساعة. كانت دافئة، كأنها تحفظ حرارة كفّه.
ومنذ ذلك اليوم، لم أره. لا في المكتبة، ولا في الساحة، ولا حتى في المقاهي الصغيرة التي يرتادها الغرباء.
سألت البائع العجوز عن الرجل، فقال:
– “كان يأتي كل شتاء، ثم يختفي عند أول زهرٍ في الشجرة.”
في تلك الليلة، جلست وحدي على المقعد ذاته.
الساعة في يدي، والعقارب تدور بصمتٍ يشبه الريح.
فهمت فجأة أن الرجل لم يكن يبحث عن كتاب… بل عن نهاية مناسبة لقصته.
خاص لصحيفة قريش – ملحق ثقافات واداب. -لندن