المجنونة المتحرِّشة بالنساء الحوامل 

10 مايو 2025
     المجنونة المتحرِّشة بالنساء الحوامل 

   

                         كاتب من المغرب                                                                               

حينما كان يلتقي بصري ببصرها،خلال سياق هذه الحكاية وقد انقضت الآن سنوات طويلة،تبدو للوهلة الأولى فتاة عادية صاحبة ملامح وديعة ووجه سمح المحيا يستحيل أن تظنّ بها الظنون.لكن،بمجرد تبلور هذه الصورة الآدمية باعتبارها شخصا عاديا حتى تعيد بسرعة إعادة صياغة شكل وجهها السابق،جملة وتفصيلا،كما لو أزالت بجرَّة حركة بسيطة قناعا مصطنعا تنحرف عيناها فتغدو حولاء،تخرج لسانها من فمها بطريقة مستفزة فيأخذ طولا عجيبا كأنَّه ظلَّ فقط قابعا داخل جوفها ثم تشرع في إصدار أصوات غريبة؛تبعثها تباعا وفق ترانيم إيقاعية مضبوطة من قعر بطنها.

عاينتُ مرارا خلال زمن الطفولة،هذه التجربة الغريبة سواء ضمن نطاق حيِّنا أو دروب أخرى في مراكش القديمة،بحيث دأبت الفتاة المجنونة على التِّجوال الحثيث، لايتوقَّف طوافها،تنتقل مشيا من مكان إلى ثان،بسرعة قياسية لذلك لقَّبها البعض ب”الغابر الظَّاهر”،” اسْحْتْ الليل”،نتيجة سرعة طيِّها الأحياء وحضورها عبر الأمكنة خلال ظرف قياسي.

أيضا، سُمِّيت ب”مُولاتْ لْما(الماء)”لأنَّها شغوفة بالاستحمام حتى عزّ الشتاء،في تلك السواقي المتواجدة آنذاك على امتداد مسافات متقاربة بجانب مراحيض عمومية يلجها الذكور أساسا تقتحمها كثيرا عندما تزداد حالتها سوءا،وقد يحدث الأمر في أوقات حرجة للغاية،لحظات جلوسهم القرفصاء على امتداد مربَّع الحوض المائي الموجود وسطا نصف عراة تقريبا،بصدد تطهير مؤخِّراتهم وأجهزتهم الأمامية قبل الانتقال إلى المسجد،فتحدث ضوضاء وجلبة،وتبدأ اللعنات تتقاذفها من طرف الجميع والسخط والغضب،ولايخفِّف نسبيا من حدّة ردود الأفعال سوى علمهم بكونها مجنونة،بينما هي تطلق العنان لقهقهات ساخرة وهستيرية مردِّدة عبارة”طْزْزْ يَارْجَالْ آخر الزمان”.

مع ذلك،قياسا للرجال،شكَّلت المرأة عدوّها  اللَّدود،والكائن الذي يستفزُّ بامتياز اضطرابها النفسي،الحوامل خصوصا،تلاحقهنّ أينما مررن،كي تمارس عليهن أقصى درجات التحرُّش والتَّعنيف اللفظي والرمزي،فتصيب أغلبهنّ بالذُّعر والإغماء،وأحيانا بل غالبا، موجات من الشِّجار،تفوز بها غالبا.

تتعقَّبُ خطى المرأة المتوخاة،وحين الاقتراب منها تشهر أصابعها العشرة ذات الأظافر الطويلة والمتَّسخة،ثم تبدأ في المواء مثل قطة شرسة :”مْيوُ، بْخْ، بْخْ”. لاتعرف الضحيَّة ما الذي يجري حولها؟مامصدر الابتلاء؟ تحاول جاهدة النفاذ بجلدها،غير أنَّ القطة المتحوِّلة آدميا تلاحقها غاية منتهى أنفاسها،تحاصرها عبر مختلف السُّبل حَدَّالاستسلام إما انبطاحها أرضا مجهشة بالبكاء أو الإغماء للحظات،و ما يتلو ذلك من تداعيات سلبية ممكنة على سلامة جنينها،النتيجة التي تتطلَّع إليها هذه المجنونة بجنون قلبا وقالبا،مثلما تعكسه عبارات استهزائها بهؤلاء الحوامل حين تقمُّصها الحالة الفيزيائية والنفسية لقطَّة مسعورة أو كلب شرس،بحيث تصدر كذلك نباحا كأنَّها كلب بشحمه ولحمه،وكلما ارتفع نحيب المعتدى عليها،اشتدّ أكثر هيجان المجنونة ثم تصرخ مزمجرة في وجه ضحيتها :

-”لماذا كل هذا الدّلال و الغنج هل ستنجبين لنا سيف دي يزن،وحش الفلا،غريندايزر، أو بوب مارلي؟فلتموتِأنتِ و خِراء بطنكِ !”.

يتدخَّل الحاضرون كي يفصلوا في النزاع،تهدأ الأوضاع نسبيا،ينتبه بعضهم لتناقضات الإحالات الواردة ضمن عبارتها،فما الجامع بين تلك الأسماء الأربعة؟حين التركيز فعلا،يبدو خطابها مضحكا للغاية،فتنطلق صوب الآفاق ضحكات متلاحقة تحوِّل التراجيديا القائمة إلى كوميديا خالصة،واختتام ذلك،بالتعوُّذ من أحوال الجنِّ والمجنون والجنون،وهذيان ذهاب العقل،وسوء عاقبة الفرد،ونعمة العقل،إلخ.

مع ذلك،يتحاشى البعض الآخر صبّ لعناته على المجنونة،لاسيما الذين يعرفون جانبا من ماضيها المشرق قبل مآلها المأساوي،وبأنَّ جنونها ثم حقدها على النساء الحوامل؛ بالدرجة الأولى،مصدره كما يقول الجانب الكبير من الرِّوايات،المكيدة الهادئة التي تعرَّضت لها من طرف صديقتها الوحيدة الوفيَّة وتقاسمت معا كل شيء،مما جعل حكايتها أقرب إلى المطوَّلات الكلاسيكية الهندية أو المصرية،التي كنّا نتابع سردها بانسياب كلِّي للمشاعر وارتخاء لأوتار النَّفس مع عيون مغرورقة بالدموع وآهات حزينة.

طبعا،اختلف سياق التلقِّي بين قاعة السينما عن تلفيزيون غرفة البيت بحيث تزداد شعرية الحكي حينما تقرِّر المكوث في البيت بدل السينما،ذات ظهيرة يوم شتوي ممطر وبارد. مطر صامت ومثابر، مناخ بارد بكيفية حلوة وناعمة تجعلك متطهِّرا نفسيا بكيفية غير مألوفة وأنت ممدَّد في فراشكَ تدثِّركَ بطانية بعد تناول حساء شهيٍّ،وتتابع خالي الذِّهن داخل حجرة شبه مظلمة جراء جدِّية الطقس الشتوي مشاهد الفيلم الحزين.

قيل،بأنَّها كانت على قدر من التميُّز العلمي والأخلاقي،بدأ يلاحقها أحد أبناء الجيران،كلما غادرت المنزل نحو المدرسة.ترسَّخ التقليد لشهور وبإلحاح،بدأت تسقط في حباله إلى أن أغرمت به،لاسيما وقد وعدها بالزواج،لكن بعد تطوُّرات الأمور اكتشفت خيانة مضاعفة من طرف عشيقها وكذا صديقتها الأقرب إليها من حبل الوريد.

هكذا،أصيبت بهزَّة نفسية أجبرتها على مغادرة المنزل إلى الشارع،لاسيما بعد غضب وتعنيف من طرف أبيها حين علمه بحيثيات ماجرى،ثم الاضطراب والتشرُّد وتبعات ذلك،وأخيرا تبلور سخطها نهائيا نحو بطون الحوامل حتى يتخلَّصوا من حملهن.

انصبَّت عداوتها كلِّيا على النساء،بينما توقَّف اهتمامها بالذكور.أسفر تحرُّشها المستفزّ غير مامرة،عن خسائر بشرية بالمعنى المجازي للوصف،بحيث تعرَّضت النساء اللواتي صادفنها  في طريقهنّ،لجملة مضاعفات جانبية،فصارت تمثِّل رعبا حقيقيا في المدينة خلال تلك الحقبة،التي كانت عموما آمنة وجوديا تحكمها ضمنيا سلط البساطة، التسامح،الرحمة.

ربما،بدا حظّ نسوة الشارع العام أفضل من أخريات ألقى بهنّ حظّهن العاثر داخل الأتوبيس.لحظتها،تعيش النساء وقائع حرب ضروس،وقد حوصرن داخل جوف الحافلة،ولامجال يذكر أمامهنّ قصد الفرار من مطاردة المجنونة،التي تبدأ مثلما دأبت عادتها بإظهار مخالب القِطَّة مع صياح يتأرجح وقعه حسب حالاتها المزاجية فيتحوَّل من وداعة قطَّة صغيرة كي يبلغ زمجرة نمر جائع،إذا حاولت إحداهنّ التصدِّي لها،وحينما تتعب ترتمي فوق كرسي أو أرضا في حالة عدم وجود مقعد شاغر،وتطلق العنان لخطبتها المعتادة حول النساء وكيدهن والإنجاب وتفاهته.

 احتقرت دوما أجنَّة بطونهنَّ،مادامت لاتفرز أبطال مخيلتها الحقيقيين فتتحدى دائما باسم أسطوري معيَّن تستلهمه خلال كل مرة من حقل بذاته. يسبر،أحيانا استعراضها تلك الأسماء الرمزية، أغوار ذاكرة معرفية مهمة راكمتها حتما قبل الجنون،وتجعلها مثلا أعلى يستحيل تجسيده ماديا سوى خلال أزمنة متباعدة جدا وبكيفية استثنائية،حتى تبخِّس جملة وتفصيلا حمولة الجنين المرتقب من طرف الحامل.

صراخ،عويل،بكاء،زفرات مخلوقات بصدد التنكيل،لاتهتمّ قط،المهمّ أن تشفي غِلَّها،وتخلق الرعب قدر مايكون الأمر.تمكث داخل الحافلة،غاية إحساسها بكونها أنجزت مهمتها بنجاح،ثم تترجَّل متى شاءت رغبتها،نحو أبواب حافلة أخرى؛كي تعود من حيث أتت.

تقضي اليوم كاملا حسب مقتضيات المزاج،جيئة وذهابا،كي تخوض المعركة نفسها،واجترار الأساليب عينها دون كللٍ ولا مللٍ.

مساء،بعد الانتهاء من وقائع يوم شاقٍّ قوامه مطاردات دونكيشوطية،تعود إلى قواعدها داخل الحيّ،تقصد بالضرورة سقاية وتشرع في الاستحمام بملابسها والرقص والغناء بأعلى دويِّ حنجرتها، على بعض الأزجال المغربية التراثية:

 * الله الله ما كاين غير الله         لي زرع شي وحضاه نهار لحصاد يلقاه.

* الصاحب لا تلاعبه والناعر لا تفوت عليه

اللي حبك حبه أكثر واللي باعك لا تشتريه.

لا تتزوج المرأة غير العفيفة تتعاون هي والزمان عليك.

 *  المَرَة بِلا أولاد كِالخيمة بِلا أوتاد

  * سوق النسا سوق مطيار      يا الداخل رد بالك. 

  يوريو لك من الربح قنطار     ويديو لك رأس مالك.

*كيد النسا كيْدِين،ومن كيدهم جيت هارب، يتحزموا بالحنوشة، ويتخللّوا بالعقارب

*آه يا محنتي عدت خدام والتبن أعمى عيوني   

خدمت عند عرّت الناس في وجبة العشا يطردوني.

*يا قلبي نكويك بالنار وإذا شفيت نزيدك

  يا قلبي خلفت لي العار وتريد من لا يريدك…

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاخبار العاجلة
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com