
علي شيخو برازي

تميز العهد الأيوبي عن غيره في صناعة الأواني الزجاجية والنحاسية والفخارية, من أطباق الطعام والفاكهة إلى الأواني المنزلية الأخرى مثل : الأباريق النحاسية, الشمعدانات النحاسية, المزهريات, المباخر, أكواب الشراب, الجرار, الطست وأواني أخرى. وكان بعض النحاسيات مطعمة بالفضة والذهب .
كل هذه الأواني نقشت بأيادي الفنانين والحرفيين المهرة, الذين ابتكروا الكثير من الأشكال الهندسية والرسومات النباتية ورسومات الحيوانية, بالإضافة إلى الكتابة على هذه الأواني بالخط الكوفي, وغير ذلك من ضروريات العمل الفني, وكل ما يحاكى معتقداتهم وتاريخهم وتقاليدهم, التي ورثوها عبر التاريخ, وقد استمدوا ذلك من ثقافاتهم المتنوعة, الغنية بالقصص والأساطير التي كانت جزءا من الموروث الثقافي في بلاد الشام والجزيرة , وكان ما يصنعونه يضاهي ما يصنع في بلدان العالم آن ذاك.
عرفت صناعة الأواني عند الإنسان منذ أقدم العصور, وتطورت هذه الصناعة مع اكتشاف الإنسان للنار, ثم أضيفت إلى هذه الأواني الحركة والإيقاع, فباتت أوسع تجريدا وأكثر جمالا مع مرور الزمن, ” فالزهرية اليونانية نموذج للتناغم الكلاسيكي، وحينئذ قامت حضارة ناحية الشرق، فجعلت من صناعة الفخار فنها الأثير والأكثر تعبيرا عنها، بل استطاعوا أن يدفعوا بهذا الفن إلى صور أندر نقاء مما استطاع الإغريق أن يحققوه. فالزهرية اليونانية تمثل تناغما جامدا (استاتيكيًّا)، أما الزهرية الصينية – حينما تتحرر من التأثيرات المفروضة للثقافات الأخرى والأساليب الفنية المخالفة، فقد حققت تناغما متحركا (ديناميكيًا) أنها ليست شيئا خزفيا، وإنما هي زهرة حقيقية.” (1)
كانت صناعة الخزف متطورة في العراق, وخاصة في مدينة الموصل, التي أمدت الشام بالفنانين والمهرة من صنّاع هذا النوع من الأواني, ففي العصر الأيوبي اهتمت الدولة بهذه الصناعة، وتطورت حتى عرف نوع جديد منها باسم الخزف الأيوبي، هذا الفن الذي امتاز بالرقة الطينة وجمال التشكيل على الأواني الخزفية والزجاجية، حمل في تشكيلاته ألوان عدة من : الأخضر والأزرق والأسود والأبيض والأحمر, إضافة إلى زخارف ورسومات بديعة لأنواع نباتية يتخللها أشكال جميلة للطيور والحيوانات، ونقش على أنواع من هذه الصناعات الملاحم البطولية والقصص المشهورة لدى المسلمين وأهل الشام .

فقد شهدت الصناعات اليدوية وفنون الزخرفة, ازدهار واسعا في عهد الدولة الأيوبية, وتوافد الحرفيون والفنانون من مدن بعيدة إلى دمشق وحلب, وخاصة صنّاع التحف المعدنية الذين أتوا من الموصل, ” وقد اشتغل هؤلاء الفنانون لحساب الأمراء الأيوبيين في دمشق وحلب, وهناك العديد من التحف المعدنية الأيوبية التي صنعت ببلاد الشام, والتي تحمل العديد من أسماء وألقاب سلاطين بني أيوب في دمشق وحلب مثل: الملك الأشرف موسى, والملك العزيز محمد, وغيرهم من الملوك . ” (2) ويقول حسن عن ازدهار صناعة الخزف في الشام : ” اضمحلت صناعة الخزف ذي البريق المعدني في مصر, منذ نهاية القرن السادس الهجري(12 م), ولكنها ازدهرت بعد ذلك في الشام في القرنين التاليين.” (3) ورغم حروب الأيوبيين مع الصليبيين لم تتوقف هذه الصناعات, بل أصبحت أكثر رواجا بين التجار الصليبيين .
فتحت هذه الحروب مجال أوسع للتبادل التجاري, وكان لحجيج بيت المقدس اهتمام كبيرا في التحف الأيوبية , يقول سالم: ” لم يكن اللقاء حربيا فحسب بل كان لقاء حضاريا على أوسع نطاق, حيث ترتب على الحركة الصليبية خلق وضع حضاري جديد في بلاد الشام, انعكس على المنتجات المعدنية وزخارفها, بحيث مهد الطريق لظهور مناظر مسيحية على التحف المعدنية الأيوبية, تتفق مع عقيدة المسلمين عن السيد المسيح, وعن الديانة المسيحية كما جاء في القرآن الكريم, بالإضافة إلى حرص الأيوبيين على تسجيل أسمائهم وألقابهم عليها.” (4)
ومن خلال هذا الرواج الواسع للمنتوجات الخزفية والنحاسية, تناثرت التحف الأيوبية في متاحف العالم, نظرا لجمالها وسحرها من حيث التشكيل اللوني والتنسيق الهندسي, كانت التحف المعدنية الأكثر تميزا في العصر الأيوبي, وأجرت جامعات العالم دراسات هامة عن الصناعات الخزفية والنحاسية وغيرها مما تميز بها العصر الأيوبي, كان أشهر مراكز هذه الصناعات : حلب , دمشق , الفسطاط والقاهرة .
واعتمدت صناعة هذه التحف المعدنية في العصر الأيوبي على ” ثروات طبيعية من المعادن قلما وجدت في بلد إسلامي آخر, فقد وجدت في مناطق كثيرة من بلاد الشام, ولاسيما في منطقة الخليل وحول البحر الميت وحلب على شكل مخروطي عرف باسم: نهر الذهب. ” (5) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 – https://islamonline.net/archive/ ) 30\4\2025 .
2 – الفنون الإسلامية في العصر الأيوبي ج 1, د. عبد العزيز صالح سالم, مركز الكتاب للنشر, ط 1, القاهرة 1999 , ص 19.
3 – فنون الإسلام, زكي محمد حسن, , ط 1, مصر 1948 , ص 319.
4 – الفنون الإسلامية في العصر الأيوبي ج 1, د. عبد العزيز صالح سالم, مركز الكتاب للنشر, ط 1, القاهرة 1999 , ص 9 .
5 – المصدر نفسه, ص 18 .