عبدالحسين حمزة
رجعت بعد غيابٍ طويل، لا لأنني نسيت الوطن، بل لأن الوطن نسي شكله الذي تركته فيه. كنتُ أبحث عن العراق، العراق الذي عرفتُه حين كنتُ أستمع للذاكرة وهي تمشط لي طفولتي على ضوء فانوس في بيت جدي، والقرآن يتلوه جارنا المريض على نية الشفاء، والجار لا يأكل حتى يرسل لصحن جاره، والمدرس لا ينطق كلمة إلا وفيها هبةٌ من الوقار.
عدت… وكنتُ أتصور أن العراق نائم، لكني اكتشفت أن العراق “مُخدَّر”… لا صوت يوقظه، ولا صرخة تعيد له وعيه.
مشيتُ في شوارعه، لا أبحث عن رائحة الخبز، بل عن رائحة “هيبة الدولة”، لم أجدها.
دخلت المدارس، فوجدت الصف الخامس لا يعرف (أنَّ وأنْ)، و”كان” صارت “صارت”، و”كان” لم تكن… لكنها صارت سلعة تُشترى بـ 100 دولار تُعطى لمديرة مدرسة تقرر من ينجح ومن يسقط.
صارت الشهادة ختمًا يُشترى، لا علامة على علم.
الجامعات؟ صالات ضيافة سياسية، تُدار بالولاء لا بالكفاءة، ومن يدفع أكثر يُصبح أستاذًا، حتى لو كان لا يفرّق بين أفلاطون و”بطاطا”!
أما الإعلام… فبائع خردة يروّج لأصنام زمننا الرديء، أصواتهم عالية لكن عقولهم فارغة، يصرخون عن الوطن وهم يقتاتون من فتات موائد السفارات.
المدينة؟ مسحوقة…
المخدرات تسرح وتمرح، والمروج يُصافَح ويُحترم أكثر من الإمام والمعلم والطبيب، والضحية تُسجن بتهمة التعاطي، بينما التاجر يُنصَّب شيخًا أو نائبًا أو مسؤول دعم لوجستي.
دخلتُ مقهى، فوجدت الأركيلة تُقدَّم مع البنات، والسُّكر يُباع في الليل تحت اسم “متعة”، بينما النهار يتزين بخطب التوبة والنفاق.
في الليل تُعرض الغلمان، وفي النهار يُلعن قوم لوط.
وحين سألت عن الشرف، قالوا: “في ثلاجة المحكمة… بانتظار قرار عشائري”.
شابة، نعم شابة، تصور نفسها وهي تُغتصب بـ”فرشاة شعر” فقط لأنها خافت من فضيحة أكبر من جريمة المبتز نفسه! لم تستطع أن تقول: “أنا ضحية” لأن المجتمع يجلد المذبوح ويصافح السكين.
أما العقول؟
فقد غُسلت بماء “وطني” حملته أقدام الزائرين، وليس علمًا ولا وعظًا، بل استعبادًا بنكهة العقيدة.
صار العراقي لا يرى العراقي، بل يرى مذهبه وقبيلته، حتى صرنا 100 راية في وطن بلا راية.
قصص تبادل زوجات، و”منتديات ليلية” تحت حماية مسميات حزبية، وخرافات تُباع في المكتبات على هيئة علوم.
والأخطر… أننا نعيش كل هذا ونصلي ونصوم ونتحاكم باسم الدين!
يا وطني…
هكذا وجدتك بعد 27 عامًا من الغربة:
مغتَصبٌ عاشقاه السلّ والجرب.
(كما قال البيروني عن صنعاء حين استبدّت بها المصائب)
لم آتِ لأشتم أحدًا، ولا لأمسّ عقيدة أحد، لكن العراق اليوم بحاجة لشرطة لا تحرس الشوارع، بل تحرس العقل.
العقل الذي نام، والضمير الذي أكلته العشيرة، والروح التي سُكرت بحبوب الهلوسة الإعلامية.
أيها الناس…
نحن لا نحتاج قانونًا جديدًا، بل عقلًا جديدًا.
نحتاج رجالًا لا يقبلون أن تُغتصب بناتنا مرتين: مرة بالفعل، ومرة بالصمت.
نحتاج أن نعيد تعريف معنى أن تكون “إنسانًا” في هذا الوطن.
وقبل أن تُعيدوا بناء الجسور والمولات والمراقد… ابنوا “ضميرًا”، لأن الأوطان لا تنهض بالحجارة، بل تنهض بالرؤوس التي لا تُباع، ولا تُباع، ولا تُباع.
استيقظوا… قبل أن يُكتب في آخر سطر من تاريخ العراق:
هنا دُفن وطن، لم يمت بسكين العدو، بل بانتحار أهله.