د.الطيب النقر
كاتب من السودان
أدركت الدولة الغضة بواسع علمها، وثاقب رأيها، أن الجيش الذي تحاربه بالوكالة، لم ينتصر في جبل موية، وسنجة، والجزيرة، والخرطوم، وتسير جحافله الآن غرباً لتدك آخر معاقل التتار الجدد، بالسحر والأرواح، وخوارق الطبيعة، ولكن لأنه جيشاً جَرِيئاً يجيد الحرب، ويتقن النزال، ولا أعلم إذا كانت هذه الدولة الهشة التي تعض شقيقاتها بناب مسموم، وتصاولهم بمخلب قاتل،تدرك أن هذا الجيش اللجب الذي تورطت في منجازته، قد ظفر بشهرة لم يظفر بها أحد سواه في الجزء الشمالي الشرقي لقارة أفريقيا، لقد استطاع هذا الجيش ببطولاته وجهاده، وتضحياته الجسام، على مدار أكثر من قرن، أن يحوز على هيام شعبه، وينال حبه وصبابته، وفي الحق أن هذا الجيش لم يهيمن على فؤاد شعبه، إلا لأن هذا الشعب أبصر قواته بقوامها الرشيق، وبمنطقها البسيط الأنيق، لا تتردد لحظة في الذب عنه، والذود عن حياضه، بل لم تقتصر مهمة القوات المسلحة السودانية، على مدار عمرها الحافل، في الحفاظ على كيان الدولة التي يمنحها أغلى ما يملكه، ويتحفها بهذا الجهاد الطويل الخصب، وتخصه هي باللين حيناً، وبالعنف والشدة حيناً آخر، رغم محبته لها، لأنه يجهل لماذا يتدفق جنوده أو يحجموا عن اجتياح منطقة ما، أو لماذا يفتحوا أبواب بعض المدن أو يغلقوها، ولكنه بعد كل هذا تملك هذه القوات المسلحة أفئدته، وتسيطر على ضمائره، متى ما انجلت الأسباب، واتضحت الحقائق، فالجيش لا يمكن أن يشرك شعبه في كل أمره، ويطلعه على جميع شأنه.
نقول لحكام هذه الدولة الخليجية الذين نعرف أنهم ليسوا أهل إيمان، و لا أصحاب دين، أن جيشنا الذي يؤدي واجبه كأحسن ما تؤدى الواجبات، لم يكتفي بهذه الأعباء الثقال التي تنهض بها كل جيوش العالم، ولكنه زاد عنها بالحركة والنشاط، الذي جعل شعوب المنطقة، تحتفي به، وتثني عليه، لأنه سار وفق قواعده ومثله العليا، التي تحتم عليه، أن يتضامن مع محيطه الذي يعرفه جيداً، ويفهم دقائقه، لأجل ذلك رأينا لجنود السودان مشاركات خارج نطاق حدودهم، أبصرناهم يضطربون في بيئات ليست غريبة عليهم، وغايتهم من هذا الاضطراب، أن يعربوا عن ذاتهم التي ترغب في مساعدة الغير على نيل الحرية، ولكي يعيدوا الأمور إلى نصابها، لأجل هذا شاركوا مصر في كل حروبها منذ الاستنزاف حتى أكتوبر الأخضر، وكان تواجدهم سائغاً ابّان الحرب الأهلية في لبنان، وفي الكويت حينما أراد الرئيس العراقي الراحل “عبد الكريم قاسم” أن يشمخ فيها بأنفه.
إذن سادة تلك الدولة التي سوف تثكلها مدارج الفتون قريباً، لن تظل وادعة آمنة، فنخبها السياسية كانت جامحة الخيال، حينما ظنت أن خارطة السودان غيداء فاتنة، يمكن الحصول عليها بتلك الشرذمة من الرعاع الذين لا أجد رزءاً في موقفي هذا، بأن أدمغهم بالجبن وأنهم هم و” قحت” و”تقدم” بجميع مسمياتها أحطّ الناس مرتبة، وأنأى الخلائق بعداً عن الشرف والوطنية.
دويلة الشر اعتقدت أنها ستخرج من الهوام رجالا، ومن البراغيث أفيالا، وأن هذه الجموع من طغام الناس وبغاثهم، في كل صورهم وأشكالهم، تستطيع أن تسحق جيشاً عرمرما، وتجعله في حرج وفي عسر شديد، كلا، لم، ولن يحدث هذا، فمما لا يند على ذهن، أو يلتوي على خاطر، أن هذا الجيش الذي تطمئن إليه قلوبنا، وتستريح إليه نفوسنا، صاحب فلسفة عميقة رفيعة لا يدركها كل انسان، فلسفة غذت عقولنا وأرواحنا، فلسفة شامخة ناضجة، مكنتنا من أن نفهم قيمة جيشنا، ونجعله هادينا الأوحد في حياتنا، فقد آمنا به و كفرنا بما غيره، وأيقنا بأنه قد تجرد عن الشعور بالفردية، وتسامى عن كل شهوة أرضية، نحن نعشق جيشنا الذي اعتلى ذروة المجد، ونتعصب لهذه الأفكار والآراء التي تزعم بأنه رمز النضال، وأنه موئل انعتاقنا الأبدي، فلولا هذا الجيش الكاسر الصنديد، لأمست تلك الدويلة التي لا تضمن بوائقها تتحكم حتى في سمعنا وبصرنا، وحَسِّنا وفكرنا.
إن حربك معنا أيها المأفون الواهم، أنت وحاشيتك، قد اتخذت سُبلاً ومواطن أخرى، وها نحن نراك قد انحرفت عن صورها الراتبة المعهودة، وكأنك قنطت من رهط المغامرين الخبثاء، الذين تظاهر بعضهم على بعض، ونشأت بينهم الغوائل، فعمدتم إلى “المسيرات” التي اتخذت صبغتكم الدموية، عساها تشفي غليلكم، وتستل سخميتكم من القوات المسلحة السودانية التي أودت بحياة مجموعة مقدرة من ضباط جيشكم الفينان، ثلة قضت نحبها في مدينة “نيالا” فما أن سمعتم بخبر”نفوقهم” حتى هاج كبرياؤكم، وثارت ضغينتكم، فأمطرتم “بورتسودان” وغيرها من مدن السودان بهذه البعثة المباركة من “المسيرات” التي لن تغير أعاليها وأسافلها شيئاً من إحكام الصلة بسهول، وهضاب، ومدن، ونجوع، ليس بينها وبين القوات المسلحة شيئاً من الإهمال أو الغفلة.
إذن أسدر في غيك، وتمادى في ضلالك، وأرسل “مسيرات” غضبك وامتعاضك، فهي لن تلهي الجيش عن اكمال مهمته، فالجيش، والقوات المشتركة، و”ألوية البراء بن مالك” التي تعج متحركاتها بالتهليل والتحميد، وتصخب بالتسبيح والتمجيد، هذه الألوية تندمج مع الجيش دونما نفور، ولن يمضي غير قليل حتى تمتد أياديهم من كل جانب لتخنق “تتر العصر” وتبطش بعد ذلك بمن عاونهم ومكّن لهم.
لن يستمر هذا الحال طويلاً، ولن ينظر الناس إلى قصورك وأبراجك معجبين، فسوف يخني عليها الذي أخنى على لُبَد.فهذا مصير كل من يرى في الأنانية دستور للحياة، وينساق وراء لذته وهواه.