رمضان زيدان

كاتب من مصر
في أحد الأحياء للبلدة المنيفة
التي تعجُّ بها كتلٌ بشريةٌ كثيفة
حدثتْ تقلبات هوائية للموجات
الموجهات لخطوط الويب
مرة بعد مرة لم تستجب
توقفتْ البرامج التقنية على الإطلاق
وظلَّتْ في تماوجٍ لعودة الإشراق
حيث تمددتْ الأجهزة بلا حِراك
في جرابـها هناك
بغتةً حلَّ الوجوم عليها
وخيّم في الأرجاء سكونٌ لديها
ضلتْ عن وجهة أفكارٍ
فرغتْ من فحوى المضمون
زخم الإدراك لقد أفضى
بضجيجِ ألوفٍ مكبوت
تلتاع لسالف بهجتها
غايتها القصوى من عمق كيان سريرتها
يزدهي الصبح بطلّتها
كبزوغ الشمس الموقوت
فها هي الأجهزة
تلك المعجزة الـمـُـجْهِــزة
على الوقت عدْواً
صارت كجثةٍ هامدةٍ عاجزة
حينما سُلبتْ منها الروح
فسكنَتْ ولم تَـعُد تقوى
على أن تُبدي شرحاً وتبوح
بأيٍ من تلك المعارف
لم يبقى بمقدورها عطاءٌ
يوفي لسائلها مرادف
فالأخبار الموجزة
انقطعتْ والصور انطمستْ
والمعالم اندثرتْ
من قسمات الشاشات
تلاشتْ المقالات
توارتْ في حُجبٍ ضبابيٍ مقيت
يُشيّعها لحنٌ جنائزي لحتفها الـمُميت
حتى ألعاب الأطفال
بين الأطلال قد انحسرت
وفقدتْ للتو براءتها وداعتها
بعدما ناصبتْ العداء لمن حولها
حينما حوّلها من صمَّمها
لحربٍ سادية في اللهو والمبارزة
لم يبقى نُبلٌ لمقاتل
من خلالها بل أصبح القاتل
المأجور عندها
هو الأُسوة والقدوة
والدافع بالفكرة تلو الفكرة
وتلك الألعاب هي الأخرى
تعطّلتْ وكان أحرى بها
أن يكون لها أثــرٌ قيميٌ يحتذى
يمضي على أثره من أراد أن يقتفيه
فكل ما بقي فيها وما تبقى فيه
قطعةٌ من البلاستيك
وشاشة من الزجاج بائسة
فالأجهزة سلعةٌ باتتْ مؤهلة
للبيع للمزايدة عليها
في ساحة المنافسة
من أجل اقتناءها شاهدة بوصفها
تلك التي تسجّى عندها
وتمدّد بأرضها هياكل متراكمة
لشهقاتٍ لفظتها واصّاعدَتْ متمايزة
…..
في مكمن عزلتها القاصي
يأتيها الغوث بإمدادٍ لأثيرٍ يلتاع حنينا
وكأن فراقاً من أمسٍ
للخِلِّ قد أمضى سنينا
عشقاً وولوعاً من روحٍ يبعثها وتينا
من نبض الخفقان كيان
يُعرّف ماهية الإنسان
تبتدر بواطن موْضعها
حبات اللؤلؤ أدمعها
بشجي نشيجٍ ونحيبٍ من ذا يسمعها
من وَقْــد القلب معانيها
تسمو بمشاعرها العليا
لتبقى الرؤيا على الكينونة مستحوذة
…..
فالأجهزة التي كانت منذ هنيهة عاجزة
بدتْ منذ الآن جاهزة
لاستئناف مسيرتها
والعودة لسيرتها الأولى
لتعكس وجهاً مصقولا
ها هي قد دبّتْ فيها الحياة والحركة
بِكمٍّ للمعرفة مهولا
ودأبت على التنسّم للإصباح عبيرا
قامت تلتمس بفطرتها بكورا
تتملى النورَ بأوجهها
وتبث بأعينها حبورا
فأطلّتْ من شرفتها رقراقة
على سعة الدنيا بأكملها برحابتها
بروعة بهجتها
على متن حصيلتها العلمية
كانت العابرة لمحيطها وللروح نافذة
…..
معاني . حِكم . صور متحركة
رسومات وألعاب وإعلانات مسوّقة
تواصلٌ ومراسلات
على متن الأجهزة
عِبرٌ تُؤخَذُ عَبر مدونة التغريدات
عَبَر تجاذبٍ لأطراف حديث الكلمات
عَبَر أخذٍ ورَدٍّ ونقاشات
لخوض خضم الغمرات
فظلتْ متأهبةً متحفّزة
…..
عودة الخدمة من أبراج البث
كعودة الوعي
لكينونة الجسد وعناصر الكيان
تسري مثل العصارة الخضراء
نضرة زهراء بأعواد اليباس باعثة
بروحها لتنتفض مكوناتها حيةً شاخصة
متماثلةً من الإعياء قائمةً واعظة
متَّــقدة كألسنة اللهب القائظة
وقد أفضتْ بومضتها بأشعتها
بدفئها في الليالي الشتوية الطويلة الباردة
التي ظلّتْ من حينها
للضوضاء والظلماء حاجزة
بعدما تغشَّاها السكوت
وسكن حولها وأطبق على صدرها
السكون كالمنون
كأن صمت القبور حاصرها مُجمّداً نشاطها
دافعاً بها بين أدراج الرياح
خلف إعتام الغيوم حيث عالمها القصي
موحشٌ رقودها
جمودها . وجودها الدعي
ولمّا نضب منها إكسير الحياة
عادت لها الحياة مرةً أخرى
في ثوبها القشيب
كأنه الإحياء للموتى
ونفحة النور الرحيب
يقصدها من توه الـمـُريد
فها هو سر عودة البث
للبحث كالنبع الرفيد
وقد عمل فجأةً بضغطة زرٍ مُنجزة
عمد بها وأسرع من خلالها
مُشَغّلاً للأجهزة
موجّهاً لمسيرتها والمسير
المد والمداد لمشاعل التنوير
مترنم الكلمات والبيان
المقرر الربّان في مشرعها
الذي يجول بفكره اللوذعي
بتدبره يغوص في قاع منبعها
ومكمن ذخرها أواصرها
وملتقى مجمعها وأبحرها
قبطانها المتوَّج العميد بالسديد
من أفكاره النيّرة
صاحب العقود والسطور
وما حوته الذاكرة
المُشيّد بالرُبى فوق صرحه المَشيد
مركز البحث المجيد
فأنشدتْ له الأجهزة
ترنيمة الخلاص
والتأهُّب والتحفّز والوثوب والـمِراس
من بوح علمه المنير
حينما همَّ وثّاب الخُطى
لـمّا ترجّلَ نحوها بدافعه السَمي
وإليها مقدامٌ أتى
عادت لها الأنوار ودارت الرحى
كأنها بدر التمام في كبد السماء
وتراتيل الشموس وأهازيج الضُحى
وهي في سطوعها المتوهّج
للعقول موقظة
…..
كانت الأجهزة منذ هُنيهةٍ تترنّح
بين غفوةٍ وإفاقة
وقد ضيّعتْ من حصيلتها اللباقة
وروعة الفنون وتواريخ العراقة
لكنها استأنفتْ عملها
وعادت تبوح بأسرار عجائبها
ومكنون معارفها
من حين عودة روحها إليها
عَبر إمداد الخطوط
فاستفاضتْ بالشروح عليها
حتى ينجذب المتصفح
لرصانة المطروح عندها لديها
عاكفاً للتأمل بين ضفتيها
باحثاً عن حكمة
عن نفحة للأوليات بارزة
ولما عادت الأجهزة لموطنها
لروافد منبعها
أصبحت الطيور مرفرفة
والغصون وارفة
بينما استأنف الباحث
واستشرف كل شاخص
وجهةً قويمةً نحو مشربه
نحو قامةٍ لأيقونة المعرفة
لربوة النجوم والعلوم الكاشفة
عَبر إشعارٍ صغير
لمحرك البحث فاستبان الدرس
ومضمون المعلومة
كأنها شارة اللقاء بينها
وبين منقّبٍ عن غذاء الروح
والعقل ليلتقي عندها
بجودة الأداء والصقل
في تجلي الاندماج بالانبلاج عاكسة
من قلب مكنونٍ حوته الأجهزة
وقد أشاحَ كل مُطّلعٍ عزوفاً
بوجهه عن وجهةٍ
للاطلاع بين طيات الكتاب
في الأحرف بين أعماق السطور
في الكلمات مكنونٌ مكتوم الصرخات
وبدا على ورق الصفحات عتاب
الكائن البشري وقتها
قد عاش حيناً من الدهر في سرداب
مُحجماً عن ميدانه القديم
الذي كان للحصافة والثقافة والأقطاب
راكضاً نحو غربة التيه
وصحراء الشتات بالانزواء والاغتراب
بين التراكيب المعقدة والبرامج المتحفظة
التي حوتها مختلف الأجهزة
في جولةٍ وصولةٍ مستحدثة
…..
عند كينونة الكائن (المكرم)
صارت الأجهزة على روحه جاثمة
القلم والقرطاس تحوّلا شيئاً خرافي
كالغول والعنقاء والخِل الوفي
إلى الركن القصي قد تَنَحّوا جانبا
وأصبح ندرة وجودهما على الحي غالبا
فالريشة والدواة وجدول التنظيم للبنود
مع سالف الأجيال التي توالت
حيث ماضيها البعيد قيل أبداً لن تعود
رائحة الحبر في الزمن العتيق
كانت لدي البياني
كرائحة الطيب وعود المباخر
فظل على المدى المد والمداد وافر
يختلط مع عبق القهوة
فيملأ المكان يستنهض الشهود
والزمان أن يعود
كأن في طويته رُقية الإبداع
وتوالي الأحداث في برامج المذياع
أدوات المبدع ريشته
أوراقه ألواحه والمحبرة
من وجنة الألوان والأفنان المزهرة
مداده المعطاء نبوغاً حبّره
على صفحاته الخالدة .. ما أقدره
على تفرّده العبقري الأجَلْ
وفي الزاوية هناك لمحتُ أبياتَ زجل
فوق سطور البردية الفرعونية المُبهرة
تلك هي حياته وعوالمه الخاصة الذاخرة
آلة الطباعة وبواعث الطِباع
التي صنعها لنفسه
وقت إبداعاته فجُبِلتْ في انصياع
تحدّثه بلغةٍ غير منطوقةٍ
ولا أبجدية مدونة بل مكوّنة
من هدأة الروح وسلام طويته
حينما يكون بخلواته
فيأوي لمعبده وطقوس صلواته
مضمونها أوراد تراتيل مناجاته
ظلّت هي كل حياته
آخذة به لمدارك الملكوت
لنُسك التفكّر والتدبر والخشوع
وسيق في حضرة الزمن العريق
يستنشق حين يبدع الرحيق
قبل أن تؤوب صحفه وأسفاره
لأركان المخازن
فاختل حين رؤيتها التوازن
وهي مصفدةٌ فوق لوحاته
بوثاقها الوثيق
قبل أن تتنحّى للموضع القصي
ليحل مكانها ومعرض مكانتها
الجمود والرتابة وصيحة الغرابة
من جفوة الأسلاك
التي تقود للانزواء والعزلة
وبين دفتي رحاها تفتَّتْ المُثلى
لتسوق للبعاد للفراق
وتشتت الرفاق
على المدى تبلدٌ من فراغتها بدا
من شخوصها الشاخصة
تصاميمها المتشابهة .. بها
قد تعطّل التذوق
وتَشوَّش ذوق الاختيار والمفاضلة
وسار بين أدرابٍ حسيرة
لا يقوى معها على المواصلة
فغدا الاطلاع حينها
لا يروق للطليعة
بل رسومات الخديعة من تروق
مثلما تلبّد الضباب بالشروق
فالأجهزة لو أنها بدتْ
في كل ساعات الحياة جائزة
إلا أنها قد تردّتْ بالـمِزاج العام
وأظهرتْ عناصرَ معوزةٍ
للتفاعل والالتحام
مفتقرة لعبق الأوراق وعذوبة الأسفار
ولذة التلاوات الثقافية عند مطلع النهار
عند تنفس الصبح المنير كالصغير
بين أحضان الأمومة الحانية ها هي
الطقوس المعرفية
قد تنحّتْ وكذا القيم الفكرية
من سجل الواقع البشري
فماتت المشاعر
بزحمة الفجاج وكثرة اللجاج
وعثرة التخبط والوقوع
في دياجير القعود والجمود والمناجزة
فهذا ما حدث
وكل ما حدث أحدثته الأجهزة
على ظهر كوكبنا المثخن بالجراح
المتخم بالأتراح
حيث تغدو بين حين مُنجزة
وفي أحايين كثيرة على الـمنشود مُـجْهِزة
…..
zidaneramadan@gmail.com