أنبش جذر زيتونة وأغني لأظافري أغنية حرب قديمة
لكن يا رب، إذا كنت قد حكمتَ عليّ بالمعاناة…
فامنحني على الأقل نعمة أن أفهم لماذا.
أعطني كلمة واحدة فقط…
أو اصمت إلى الأبد، لكي أتعلم كيف أحبك رغم صمتك
دوستويفسكي – الأخوة كارمازوف
يونس طير

/ كاتب من المغرب
جنون ليل المدينة لا ينتهي ومكرور كالبارحة واليوم والغد. أستنجد بالظلام واللامعنى، أستنجد باللاشيء لتحضرني أيها الذي لا يبتعد ولا يقترب. سماء الليلة لا تعنيني البتة. أشرئب بعنقي مثل ممسوس نحو كل همسة، أغيب لكي تحضر مرادفاتك، ولأنير الصفات: صفاتك. أمزقني لأشكلك. أعوي وأتحرر من صوتي لتتلو لي ربع آية. أهوي أيها الأبد داخلي وحولي لتبتسم أصابعك لي. أتحلل لتحلق ذقنك نصف صباح فقط. عد وارمي غيابك المستحيل. عد..
جنون الليلة لا عهد لي به. لا يهم. أنت هناك: استحل ينبوع حب كما عهدتك وتمرد على فراغ يأكل جميع أشجاري وينهش لحم الحمام ويستدرجني لصحراء المعنى. أيها الأبدي داخلي، يا أناي، يا أعجوبة الغياب والحضور، يا لسعة الزمن. أنت الذي حيثما تكون أكون: يا الوعد المنكوث. يا كل الحروف المنسية. يا أنين الحزانى ودمعاتهم الرقيقة.. يا الغياب الأكبر. يا نصف المدينة، يا كلها، يا قلب هذي الهضبة. يا كل سنوني ومنفاها. يا جحيم الدمع.
تلسعني الكأس وأتنهد. أغرب في عينيك وأهمس: أشتاقك وأصطنع الهوية. أي هوية وألهو باللغة المحملة بالشين: ذلك الشين الذي يلسع لسان المحملين بالألسنة الأخرى. تحضرني قائلا: من يقدر على نطق الشين مثلنا؟ نحن أبناؤه وهو الحرف الحاضن. ابن الأرض وحاميها. نطقه عمالقة قبلنا، وحملها حمام لا يتعب من التحليق، وسكن غيمة ما. يا أبي، يا شين اللغة القديمة.. تمتم به قبل قيامة تراقص الهوة.
يا أبي، أيها العشق الذي يتنفس سمفونيات مجنونة. يا النطفة التي صنعت هيكل المكان والزمان. يا سلاحا تحتضنه سنبلة تلهو في آخر الحقل. يا الندي البهي الذي تغرب له الشمس. يا أبي يا ثغر القمر الفاتن.
أبي..يا النفس الأول، يا الصرخة المشتهاة:
لا وعود ليقطعها الجبلين،
ولا رحيق لتعوم به سنن القدامى.
لا وعد لأقطعه،
ولا غربة لنتنفسها معا.
لا غياب لا حضور لا غربة..
يا غربتي الأكبر. يا غربة الغربة. يا جنونها المغترب، واغترابها الذي يراقصه ضوء جبهتك. أتعبد بتفاصيل الشغف بك وأمحو الكون قبيلة قبيلة، وزاوية تلو زاوية، وشارعا تلو شارع، ونجمة تلو آخرى، وكتابا تلوى آخر، وقصيدة بعد أخرى.. أمحو تركة هذا البلاء، واستبدلها بجبهتك. أستبدلها بإشراقة الشمس، وألهو كطفل لا تعنيه أحجيات أمه. أبتسم وأصرخ: مرعبة صورة قديمة بالأسود والأبيض تترنح هنا وهناك. مخيفة اللعبة التي لا تفتن أطفال المدرسة. يا قنديل عمقي: توجعني المتاهة التي تلتهم كل نفس وكل نهد. وتلفظني هوامش الحياة بدون تمائمك. لا صلاة بعد أفولك، لا سماء..
أرمي جثتي هناك، على الزاوية اليسرى وأبتسم لك، وأقرأ لك من حكايتنا التي أرهقها الغياب. جسدي هنا وحريق تفتعله ابتسامتك هناك: حيث أنت، أهرب لك، لذاك السراب. لا بد من الهروب نحوك. أمسح غيابك أو يتهيأ لي. أغيب بحضورك الغائب ربما. أرنو لزهرة ليمون وأتحسر. يطل وجه يدك منها فأمتلئ ببريق عينيك، وأغرق في حديثك القديم وتحملني الأرض: تلك الأرض التي ضربتها ذات حضور. الأرض التي صلبتك وأنت تستسلم للبرد. ترفعني سبابتك وترميني في لوحة رسمها ظلك الجليل. تحضرني الشمس ويسكنني ظلك. أتنهد وأهرب من السلام المؤجل، وأغيب كما دفء مساء حزين.
أبي يا يا أبي. يا آخر البندقيات. يا خفوت الملك الذي نام وأكل جثته. لا أنعي الهوة، أمزقها وأصنع بها نعشي فقط. لا أنعي ولادتك الأخيرة، أعتقها كما نبيذ منسي لا غير. أهذي وأزاحم المؤمنين، وأتعبد قي مرحاض قديم. ليلفظني إلاه ما.
غاب الظل بغيابك أيها ألأبدي داخلي، وصارت الشمس فستانا من حرير. غابت الأشياء واللغة، كل اللغة لا تهذي سوى بغيابك.
كانت اللغة حضورك.
صارت اللغة غيابك.
تبدى مجددا وارمقني بنظرة الجندي القديم. املأني بحكايات الغابات البعيدة. اضغط بيدك على جبهتي وارسم هلال الخريف على خدي. احضر وازرعني مثل حبة برتقال بجناح حمامة. امسح صدري يا أبي ككل صباح حتى أستعد للحروب المقدرة.غائب أنا بغيابك.
جنون المدينة. هذه المدينة وحدها مجنونة: ليلها بلسم يستر عيب الغياب، ورفيق درب صامت، وسماؤها لغة تلبسها اللعنة مرات ومرات.
يا أبي:
يا رحيق الفضيلة وبداية الظل في القيظ.
يا السلوى الموؤودة.
يا الصمت الذي يلي صخبا طويلا.
يا نبيذ الحضارة الأولى.
يا موسيقى النعيم: استغني عن ردائك الترابي وانجبني مجددا. أحتاج ولادة أخرى لأحبك أكثر. أحتاج حضنك حتى الفناء. يا الحي داخلي يا أناي: تعال لنكنس فناء البيت ونصبغه بحناء توحدنا. تعال لنستند معا على حكاية الجندي القديم. تمرد على ترابك وتوسد غيمة الصباح. يا صاحبي وكلي: علمني كيف أصلي للنحلة والشجرة ولغيابك الذي لا يصدق. علمني كيف أسكن صدرك ،وكيف أعد رموشك، وكيف أنقذ قرنفلة حرقتها الشمس. علمني كيف أصنع عصا أجابه بها غواية الفراغ العظيم. علمني كيف أغوي نقطة ضوء في ليل أخرق. هذا الليل.
يا أبي: كل الوجود هش ورطب هذا الهواء. هل أتضاءل ليتسع هذا اللامعنى؟ أم أنفثه مع سيجارة الصباح ليتلو اقتباسا فلسفيا سقيما؟ هل أحرق النقطة الأخيرة من نبيذي أم أبحر فيها؟ هل أهش على كلمتي الواحدة أم أذبح قربانا أخر لها؟
أبي اللغز واللغة والسماء الأخيرة..
تغلبني الهاوية وتسكنني تلك الحكاية المفتونة بالرحيل، وأجدني أنبش جذر زيتونة وأغني لأظافري أغنية حرب قديمة. الحرب التي تبتسم لرمل مهاجر. يا أبي: صحراء قاحلة هي الأسئلة يا أبي ولا رحمة هنا لأتلقفها. وهذه الكلمات، يا الغياب المكرور تنكث وعدها الأول.
أحزن على استكانة اللغة وأرتعش: لا لغة لتحمل عهدك. لا لغة لترسم ابتسامتك المتكئة دوما على حزنك القديم. لا لغة لترمم صورتك التي كسرها اللامعنى. لا جدوى من اللغة. وأهرب لفتنة تغزل صوفا على يساري. أهرب لرعب سكنني منذ الصرخة الأولى: لا تتكئ على سلاحك هناك في غابتك الموبوءة بالتاريخ. لا تزهو بزيك العسكري ولا تومئ أبدا_ وأنت غائب_ لحذائك الملمع.. أرغب بحضور لا يعنيه الزمن. الزمن الغبي جدا. لا جدوى. بغيابك البارد: لا برتقال، لا قبلة، لا قرنفل، لا شهوة. لا نهد ليغوي الشهوة.
لا ذكرى
ولا زيت ليضيء سهو هذا الزمن.
يا أبي أسكن تابوتك ويسكنني: وجهك القمري يسرقه البرد ويغمره بوقاحة، وحزن يترصد الأبد. موت ما. صمت آثم: ثمة خطب ما لا أدري كنهه. كان الموت عاصفة مجنونة. يا السماء يا الأرض يا ما بينهما:
طاهر هذا الحالم ولن يغيب الا ليحضر. هذه الفتنة بلا معنى، ولن ترعبني سمفونية الزمن الغبي. عندي يمتزج الغياب بالحضور. يتمازجان حد التماهي. لم أعرف الموت. أستنجد بسحر عينيك القديم وأرفع يديك. أرسم قبلة أسرق بها اللعنة. الموت اللعين يخضر ويرمي بهاءه الآسر حينها. أقطف فاكهة عبئك وأمتلئ بسر الحيرة. أتنفس الحيرة. أزفرها لأستنشقها من جديد. حيرة الموت. حيرة عينيك. أموت بموتك وأمتلئ بالصمت الأبدي. أتكئ عليه ويتكئ علي. أعبده وأسجد له في اليوم مرات ومرات. لن أتعب من حضورك وغيابك. سيان. أهزم موتك وتهزمني نقطة سوداء على جبينك. أتمرغ في الهباء وأراقص إرث القبيلة القديمة. أستوطن سرابك المتعب، ويستوطنني سؤال الإمكان. ممكن كل هذا وغير ممكن. سيان، سيان.
وحدها فراشة فاتنة تصنع بجناحيها تاجك.
يا شهيد الأرض الحزينة أبدا. وغربتي؟ هل أكسرها أم أخبئها ريثما ينهمر المطر؟ هل أتطهر بعدك أم أتحايل على الإثم الغاضب؟ هل أكبر بدون صلاتك؟ ثم لا قلعة على هذه الهضبة، لا شجرة، لا همس، لا خريف ولا ربيع، لا قيامة لتحرق سؤال غيابك، ولا جنة لتظلل أشجارها ثغرك.
لا خطيئة ولا قصيدة.
لا مذاق للنبيذ اليوم، لا موسيقى لأرقص، لا كلمات أتلهج بها، لا برد ليقرص جسدي، لا شمس لتشعل عطشي، لا ظل، لا زمان ولا مكان، لا أثر لقدمي. أحلم بصورة قدمي على التراب. لا تراب ليلعن فتنتي بك. يا أبي: ما كل هذا الحزن؟ هو مني وأنا منه. أصيره. أصير حزنا. أنا حزن غيابك.
لا جدوى. أغيب لأصيرك. ألهث نحو سيرتك التي يحاصرها الفراغ، يشنقها. يشنقني. قبلة أخيرة أرسمها على ثغرك. هذيان سائب ولوعة بلا نهاية. أزليتك تشبه إلاها قديما، ومثل دندنة السماء، ومثل ملك يتملى الحقيقة ويحب رعية يرعبها هدير البحر. البحر لا الحقيقة. يقول صوت من الشرق: الحقيقة تسكن جبهة الرجل البارد، كان هو الحقيقة، ولا يزال. ووحده نبي يحب الأشجار يلهج بالكلمة السر. الحقيقة لا تلعن الموت. لا يلعن الموت الحقيقة.
لا صلاة، لا مؤمنين، لا جحيم، لا حياة ولا موت. لاجدوى. لا وصية ولا غيمة. أقبلك. عدم، عدم أضيء بعينيك لأخطه.أقترب منك ويقترب الله.
أهذي بك مذذاك للآن وأبدا.