عبد العزيز حيون

كاتب من المغرب
بعد مخاض سياسي طويل وعسير يعتلي فريدريش ميرتس Friedrich Merz منصب مستشار ألمانيا ،إلا أن هذا “النجاح ” سيجعل البلد الأوربي على صفيح ساخن ويدفعه الى أزمة سياسية معقدة يتوقعها الكثيرون .
وإن كان هذا التجاذب السياسي أمر عادي في بلد ديمقراطي عريق تختلف فيه توجهات الأحزاب وخلفياتها الإيديولوجية وطبيعة الأصوات المحصل عليها وتكيف مواقف الأحزاب السياسية مع قضايا اقتصادية واجتماعية طارئة أو مبدئية ،إلا أن حصيلة التصويت على ثاني أهم منصب في البلاد لها ما بعدها وتنذر بمستقبل سياسي صعب ولا يطمئن التكتل السياسي “الحاكم “.
واحتاج فريدريش ميرتس إلى صوتين لتولي مهام منصبه، بعد أن فشل بشكل غير متوقع في تأمين الأغلبية المطلقة .
وأصبح فريدريش ميرتس، الديمقراطي المسيحي، مستشارا جديدا لألمانيا الثلاثاء بأغلبية 325 صوتا مقابل 289 صوتا معارضا. وفي تصويت صباح ذلك اليوم السياسي المشهود الذي سيبقى في ذاكرة الألمان طويلا ، فشل ميرتس في تحقيق الأغلبية النسبية بفارق ست نقاط فقط، وهي الحقيقة التي تسلط الضوء على هشاشة أغلبيته ، والتي دفعت ألمانيا إلى أزمة سياسية مرتقبة في المستقبل المنظور .
وهذا التصويت المفاجئ يجعل المستشار الألماني الجديد أول مرشح لمنصب المستشارية في تاريخ ألمانيا يفشل في الحصول على الأصوات الكافية للانتخاب من المرة الأولى رغم فوز حزبه في الانتخابات وإتمام مفاوضات الائتلاف بنجاح.
وأدى رفض البوندستاغ في المرة الأولى لميرتس إلى ترك ألمانيا في حالة تعتيم سياسي ،و هو وضع “غير مسبوق” في تاريخ الفعل السياسي المعتاد . ولمنع إطالة أمد حالة عدم اليقين، وافقت أحزاب الائتلاف على تقديم موعد التصويت إلى بعد ظهر ذلك اليوم “المشهود” مقابل خطابات مدتها ثلاث دقائق من كل حزب. ولم يسمع فيها المستشار الجديد سوى اللوم والدعوات إلى إفشال ميرتس وتكتله السياسي .
وكان حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي في ألمانيا قد فاز في الانتخابات الفيدرالية الألمانية في فبراير الماضي بحصوله على 28.5 % من الأصوات. و شكل ائتلافا مع الديمقراطيين الاجتماعيين وحصلوا على 328 مقعدا، أي أكثر بـ 12 مقعدا من الأغلبية المطلقة (316). وبلغة الأرقام ، صوت 18 نائبا ضد مرشحهم أو امتنعوا عن التصويت لصالح المستشار الجديد . وبما أن التصويت سري، فإن هوياتهم تبقى غير معروفة.
ويبحث الديمقراطيون الاجتماعيون والديمقراطيون المسيحيون عن أسباب رفض المستشار الجديد فريدريش ميرتس. وهناك من يشبه هذا الوضع بتمرد داخل صفوف الحزب الديمقراطي الاجتماعي.
ويرى الكثير من المحللين الألمان أن ما حدث الثلاثاء الماضي في البوندستاغ يوضح هشاشة الحكومة الألمانية الجديدة، التي تفتقر إلى أغلبية قوية، خاصة في زمن ” عدم اليقين الدولي” . وهذا يظهر أيضا أنه حتى أكبر قوة اقتصادية في أوروبا تتفكك في مواجهة التوترات السياسية والاقتصادية العالمية.
كما يتدارسون مستقبل البلاد والوضع السياسي الداخلي الراهن مع وجود تحديات دولية استراتيجية ،أمنية واقتصادية ،عسيرة على البلاد كما على الاتحاد الأوروبي ،وكيف سيتولى فريدريش ميرتس المسؤولية مع وجود برلمان منقسم، وبدون أغلبية قوية قد تنهار في أي وقت إذا وقع اختلاف ما ،سواء كان في الحسبان أم لا؟ .
وكما يلزم دستور البلاد ، عين الرئيس الألماني فرانك-فالتر شتاينماير رسميا زعيم ائتلاف الاتحاد الديمقراطي المسيحي/الاتحاد الاجتماعي المسيحي الفائز في الانتخابات فريدريش ميرتس مستشارا جديدا لألمانيا.
وهناك من يقول إن موقف ميرتس من المساعدات العسكرية لأوكرانيا جر عليه الخلاف مع فرقاء سياسيين يرون أنه من اللازم التركيز على قضايا البلاد الداخلية قبل أي شيء ،واستحضار مصالح ألمانيا قبل التفكير في أمور أخرى لا تجلب للبلاد إلا المشاكل والمطبات والمنعرجات الخطيرة .
ويمثل ميرتس استمرارية لسياسة سلفه أولاف شولتس في الدعوة إلى مواصلة الدعم العسكري لأوكرانيا. بل إنه تجاوز موقف سلفه عندما أعلن في مقابلة مع قناة “ARD” الألمانية احتمال تزويد كييف بصواريخ “تاوروس” بعد التنسيق مع الشركاء الأوروبيين، وهو ما كان شولتس يتجنبه باستمرار.
ميرتس في مأزق.. ألمانيا أمام تحديات غير مسبوقة وشعبيته متآكلة
وهناك إجماع في ألمانيا على أن الحكومة الألمانية المقبلة ستواجه العديد من الخلافات التي تهدد شرعيتها وشعبيتها على حد سواء، فماذا يحدث داخل أروقة السلطة في برلين؟
هناك من يعتبر أن انتخاب المستشار الجديد ما هو إلا بداية مضطربة لمستقبل سياسي مظلم في ألمانيا .
وتقول الصحافة الألمانية إن ميرتس، البالغ من العمر 69 عاما، يبدو أنه سيدخل التاريخ كأكبر مستشار لألمانيا من حيث العمر ولكن من حيث المشاكل المستعصية والمعقدة التي لم تشهدها ألمانيا الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية .
وبالتالي ، فإن هذا المنصب قد لا يكون مصدر فخر و سيثير له إلا المشاكل والمواجهات والتصدعات لا مصدر ، إذ يثير الإعلام تساؤلات حول حالته الصحية وقدرته على إدارة البلاد في ظل التحديات الكبيرة التي تواجهها، فالسيدة أنغيلا ميركل على سبيل المثال بدأت ولايتها في سن الـ51، و هلموت كول بدأها في سن الـ52.
لكن الأهم ليس عمر ميرتس وسنه ، بل قصر فترة حكمه المتوقعة، فبينما أمضت ميركل وكول 16 عاما في السلطة، يواجه ميرتس صعوبة حتى في إكمال ولايته الأولى بسبب الأزمات السياسية المتزايدة، وتعكس نتائج استطلاعات الرأي هذه الهواجس.
فوفقا لمعهد “فورسا” لاستطلاعات الرأي، فإن نسبة الثقة في ميرتس انخفضت إلى 21% فقط بين الألمان، مقارنة بـ30% في آب (أغسطس) 2024 و24% في كانون الثاني (يناير).
وعلى الرغم من أن 61% من المستطلعين يرون أنه يقدم تفسيرات واضحة لمواقفه، فإن 40% فقط يعتبرونه “زعيما قويا”، و27% فقط يعتقدون أنه يهتم بمشاكل المواطنين.
وحسب الإعلام الدولي المتتبع لقضايا ألمانيا السياسية ،فإن الوضع متأزم حتى داخل حزبه، وتبدو الصورة غير مشجعة، فبينما يثق 79% من أعضاء الحزب في كفاءته و71% في صفاته القيادية، فإن الدعم العام له انخفض إلى 53%، مقارنة بـ61% في كانون الثاني (يناير).
وفي المقابل ، وعلى الجانب الآخر، يبدو أن ميرتس يحظى ببعض القبول لدى الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الذي يشكل معه الائتلاف الحاكم، فقد أعرب 40% من أعضاء الحزب الاشتراكي عن ثقتهم في كفاءته، بزيادة قدرها 11% مقارنة بشهر يناير، لكن هذه النسبة لا تزال ضئيلة حيث عبر 18% فقط عن دعمهم الكامل له.
وعلى الرغم من وعوده بخفض شعبية حزب “البديل من أجل ألمانيا” ، المناهض للمهاجرين والمؤيد لروسيا، فإنه بعيد كل البعد عن تحقيق هذا الهدف، حيث أظهرت نتائج الاستطلاعات أن 14% فقط من مؤيدي الحزب يرون فيه “قائدا قويا” بينما حصل على ثقة 3% فقط وهو رقم ضمن هامش الخطأ الإحصائي.
تحديات الحكومة الألمانية الجديدة كثيرة
وتواجه عملية تشكيل الحكومة الألمانية الجديدة العديد من العقبات، فعلى سبيل المثال، رفض الأمين العام لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي في ألمانيا، كارستن لينمان، تولي وزارة الاقتصاد، رغم أنه كان يعتبر المرشح المثالي لهذا المنصب.
ويعزى ذلك إلى الاتفاق الائتلافي مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي، الذي ينص على عدم تنفيذ أي إصلاحات إلا إذا كانت ممولة بالكامل، ومن المتوقع أن يتولى شخصيات من خارج البرلمان الوزارات الرئيسية، مثل رولاند كوخ أو كاترينا رايتشه، وهي شخصيات سابقة في السياسة.
إضافة إلى ذلك، أثار ينس شبان، مرشح كتلة الحزب الديمقراطي المسيحي/الاتحاد الاجتماعي المسيحي لرئاسة الكتلة البرلمانية، جدلا كبيرا عندما اقترح التعامل مع أن حزب البديل لألمانيا كأي حزب معارض آخر، وكانت هذه الخطوة قد أثارت غضب اليسار الذي دعا أنصاره إلى بناء الحواجز “لوقف فاشية جمهورية ألمانيا الاتحادية”.
ولا يزال الحزب الاشتراكي الديمقراطي يتفق مع اليسار، حيث ووصف زعيم الحزب لارس كلينجبيل اقتراح سبان بأنه “لعب غير عادل” ضد ميرتس بهدف تفكيك الائتلاف الناشئ.
كما وصف رئيس الجناح الاجتماعي في حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي، دينيس رادتكي، المناقشة حول مبادرة سبان بأنها “غير ضرورية وضارة”.
وكأن ذلك لم يكن كافيا، فقد هاجمت جوليا كلوكنر، عضوة الحزب الديمقراطي المسيحي، التي تم تعيينها رئيسة للبرلمان في نهاية شهر مارس الكنيسة في أول مقابلة لها.
وعكس ما يقال ،يرى نيكولاي توبورنين، أستاذ القانون الأوروبي في معهد موسكو للعلاقات الدولية، يرى أن التراجع في شعبية ميرتس لن يؤثر على قدرته على الحكم.
يقول: “المهم هو أن الاتحاد الديمقراطي المسيحي/الاتحاد الاجتماعي المسيحي والحزب الاشتراكي الديمقراطي يتمتعون بأغلبية في البرلمان، مما يعني أنهما يستطيعان تنفيذ أجندتهما لمدة أربع سنوات، فالتقلبات في شعبية السياسيين أمر شائع، وما نشهده الآن هو مجرد تصحيح طبيعي”.
من جانبها، تشير ماريا خورولسكايا، الباحثة في معهد الاستشراق ودراسات الشرق الأوسط، إلى أن شعبية ميرتس ليست في انهيار وإنما تعود إلى وضعها الطبيعي.
وأوضحت: “ارتفاع شعبية ميرتس سابقا كان نتيجة لضعف المنافسين الآخرين، أما الآن، وبعد أن أصبحت الأمور أكثر وضوحا، فإن الأرقام تعود إلى مستواها الحقيقي”.
ومع ذلك، تؤكد خورولسكايا أن ميرتس لن يتمكن من مواجهة حزب البديل لأجل ألمانيا، متسائلة ما إذا كان هذا الحزب سيصبح الأكثر شعبية في البلاد أم سيفقد بعضا من دعمه.