الفرنسية أورلان ..حين يغدو الجسد بياناً والألم فنًّا

4 مايو 2025
الفرنسية أورلان ..حين يغدو الجسد بياناً والألم فنًّا

قراءات في المنجز الفني العالمي المعاصر 

بقلم: د. عمر سعدون

فنان تشكيلي وباحث في الفنون المعاصرة

كان ربيع باريس عام 2017 يزهر فنًّا نابضًا في كل زاوية من زوايا المدينة، حيث المعارض والمتاحف والفضاءات الثقافية تتدفق بالحياة، شاهدةً على تحولات جمالية كبرى كانت ترسي معالم جديدة لمفاهيم الفن المعاصر، آنذاك اتجهتُ بدايةً إلى بروكسل، مشاركًا في معرض جماعي ضمن فعاليات «آرت فاير بروكسل»، بدعوة من السيدة “إميليا”، صاحبة رواق (BLANC ART)، حيث عرضتُ أعمالي إلى جانب أربعة فنانين آخرين.

غير أن شيئًا خفيًّا ظلّ يراودني طوال الرحلة، يجذبني نحو باريس، المدينة التي لا تكف عن توليد الدهشة، حتى وجدتُ نفسي أمام “البيت الأوروبي للتصوير”، كان يُقام معرضا استثنائيا للفنانة ORLAN، تحت إشراف المفوض والناقد “جيروم نوتر”، بعنوان «أورلان بالعاصمة ».

هناك على تخوم المطر الذي كان يطري أرصفة المدينة، بدأت مغامرة جديدة مع الأسئلة التي تتجاوز حدود الفن التقليدي.

ما إن اجتزتُ بوابة المعرض، حتى شعرتُ كأنني ألقي بروحي في لجّة من الأسئلة الملتهبة حول الجسد حين يغدو معتركا للمقاومة، والهوية حين تنقلب على انعكاساتها، والجمال حين يثور على معاييره الموروثة، لم يكن المعرض مجرّد فضاء للعرض أو فرجة للعيون، بل كان نصًّا حيًّا ينبض بالشك والأسئلة، يعيد تعريف علاقة الإنسان بجسده، ويفكك مسلمات الجمال التي رسّختها الثقافة عبر قرون.

في قلب هذه التجربة ارتقت تجربة ORLAN كصرخة وجودية تمردت على الامتثال، ونازعت الموروث البصري في أعماقه، جاعلةً من الألم مادةً للفن، ومن الجسد وثيقة احتجاجية تنطق بما يُقصى ويُهمّش.

إن سؤال الجمال الذي أراد الفكر الفلسفي عبر العصور أن يحسمه، يعود هنا متحرراً من يقينياته القديمة، فإذا كان الإغريق قد ربطوا الجمال بتناسق النسب والانسجام المثالي، وإن كانت الحداثة قد منحته بعداً ذاتياً تعبيرًا عن حرية الذات، فإن ORLAN تعرضه فعلاً من أفعال المقاومة وكسر القوالب، فهي تفضح التسلط الخفي الكامن خلف الصور المتطابقة، وتفكك معايير الذوق المفروض بقوة الهيمنة الثقافية معلنةً أن الجمال لا يوجد إلا في النزوح عن النسق والاختلاف عن الجماعة. في رؤيتها لم يعد الجمال غايةً منجزة، بل غدا ساحة صراع تُخاض دفاعًا عن الحرية الجسدية والهوية المتجددة.

وُلدت ORLAN عام 1947، غير أن ميلادها الفني الحقيقي بدأ مع تمردها على اسمها وتاريخها البيولوجي، حين أعلنت ولادة جديدة عبر عملها الأدائي الشهير «ORLAN تلد ذاتها من جديد»، اذ أنجبت دمية بلاستيكية كانت بمثابة تصريح وجودي أن الإنسان ليس قدرًا منزلاً بل مشروعًا دائم التحول، ومنذ ذلك الحين لم يعد جسد ORLAN معطًى خامدًا، بل أصبح سندًا ووسيطاً وموضوعاً للفعل الفني، حيث تحول مشرط الجراح إلى ريشة تُعيد تشكيل اللحم بما يتحدى أوهام الكمال، ويعيد كتابة معاني الجسد خارج قوالب الامتثال التقليدية.

في عملها الجريء «تناسخ القديسة ORLAN»، خضعت لتسع عمليات جراحية صاغت خلالها مزيجاً بصرياً من ملامح نساء خالدات: جبين الموناليزا، أنف ديانا الصيادة، ذقن فينوس وفم أوروبا، لم يكن ذلك بحثًا عن نموذج جمالي جديد، بل تفكيكًا واعيًا لمفهوم الجمال ذاته. ومن امتداد هذه الرؤية طرحت الفنانة سؤالين جوهريين: ماذا يعني أن تكون امرأة؟ وماذا يعني أن تكون فنانًا؟ ففي منظورها يغدو الجسد فضاءا للخَلق لا قيدا للهوية، والفنان الحقيقي كائن يذوب في فنه، حتى لا يعود هنالك فصل بين الحياة والعمل الإبداعي.

لم تكتف ORLAN بإعادة تشكيل ملامحها، بل عمدت إلى زرع نتوءين بارزين على جبهتها، ملوّنين بألوان صارخة، متحدية الذوق العام، ورافعةً صوت القلق في وجه الطمأنينة الجمالية السائدة، هكذا تحوّل وجهها إلى نص صادم، يرفض أن يُقاس بمقاييس السوق أو يُستهلك كسلعة بصرية. وقد حاول بعض النقاد تفسير تجربتها ضمن مفهوم « الجمال/المسخ » الذي صاغته “جوانا فروه”، غير أن الأخيرة نفسها رفضت هذا التوصيف، مؤكدةً أن ما تقدمه ORLAN ليس مصالحةً مع الجسد، بل تمرّدًا عليه وخلخلة جذرية لتمثلاته الثقافية، كذلك رأت “تانيا أوغسبيرغ” في مشروعها استعادةً راديكالية لسلطة المرأة على جسدها، في وجه منظومات (السلطة الابوية) التي سعت عبر القرون إلى تأطير صورة الجمال الأنثوي.

ومع توسع تجربتها، تجاوزت ORLAN حدود اللحم والعظم إلى فضاءات ما بعد الجسد، عبر مشروعها “أورلانويد”، الروبوت الذي يحمل ملامحها ويتحدث بصوتها، موصلةً بذلك مشروعها الفني إلى تخوم التداخل بين البيولوجي والاصطناعي، ومجددةً بذلك سؤال الهوية في زمن ما بعد الإنسان.

ولم تقف ORLAN عند هذا الحد، بل دفعت بتجربتها إلى عوالم التكنولوجيا الجديدة، من الفيديو إلى الأداء ومن التنصيبات التفاعلية إلى الروبوتيك وألعاب الفيديو. تقول ORLAN عن مشروعها للعبة الفيديو: 

«لقد أنشأت لعبة فيديو تُلعب بالجسد بأسره، داخل تنصيب تفاعلي يُخاض عبر أساور  ميو Myo، الألعاب اليوم باتت ظاهرة اجتماعية كبرى، يقضي فيها الكبار والصغار حياتهم غالبًا في القتل، أردت أن أبتكر لعبةً يكون فيها اللعب فعل بناء لا تدمير، حيث الشخصية المركزية أنثى لا تخضع للأنماط المعتادة، بل كائن يكتسب إنسانيته تدريجيًّا عبر ترميم الأعمال الفنية المحطمة، كلما بُني جزء من العالم، اقتربت ملامح الإنسان من الاكتمال.»

لم يكن مشروعها في عالم الألعاب مجرد انخراط تكنولوجي ساذج، بل امتدادًا لفعل المقاومة الجمالية الذي تتبناه، حيث تصبح التكنولوجيا أداة لاستعادة الإنسان لا لاغترابه، وقد حدّدت زمن اللعبة بأربع دقائق وثلاثة وثلاثين ثانية فقط، في إشارةٍ واعية إلى أن الزمن الحقيقي ينبغي أن يُستهلك في الحياة، لا في محاكاة الدمار.

اليوم، تتوزع أعمال ORLAN في أعرق المتاحف العالمية، من مركز “جورج بو مبيدو” إلى متحف “الفن الحديث” بنيويورك، شاهدةً على رحلة الجمال من قيد الصورة إلى رحابة الخطاب الثقافي المقاوم، وقد أحاط المفوض “جيروم نوتر” تجربتها برؤية فلسفية واسعة، جعلت من الجسد ميدانًا للسجال، تتنازع فيه رمزية المقدس والمدنس، وتسقط فيه الحدود المصطنعة بين الفن والسلطة، بين التمثيل والحقيقة.

حين غادرتُ “البيت الأوروبي للتصوير”، كانت باريس تغتسل بمطر خفيف، كأنها تجدد جلدها تحت وقع الأسئلة التي فجّرتها التجربة، لم تكن زيارتي مجرد مشاهدة عابرة، بل كانت انخراطًا وجوديًا عميقًا، حيث أدركت أن الفن الحق لا يجمل الشروخ، بل يكشف هشاشتها ويعمّق السؤال.

 في كل عمل وفي كل قاعة، كان يتردد سؤال مُلحّ: 

أي جسد نختار أن نحيا به؟

وأي حرية نجرؤ أن نكونها؟

 ومع ذلك لم يكن هذا المعرض خاتمة المسار، بل مفتتحاً لدروب أخرى.

عناوين الأعمال الفنية  لــ أورلان :

–      “أورلانويد”، الروبوت

–     فوضى و كاتدرائية

–      أورلان، وكاتدرائية نوتردام في باريس، 1977 تصوير فوتوغرافي بالأبيض والأسود على ورق 
168.9 × 130.4 سم.

–     أورلان،  مغامرة تجريبية في فضاء اللعب  

المقال خاص لصحيفة  قريش – لندن

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاخبار العاجلة
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com