التعايش في سوريا: حقيقة التاريخ والواقع

3 مايو 2025
التعايش في سوريا: حقيقة التاريخ والواقع

عبدالناصر عليوي العبيدي

ليس التعايش في سوريا أمنية حالمة، بل هو حقيقة فرضها التاريخ وكرّستها الجغرافيا واللغة والدين والمصير المشترك. فسوريا ليست بلدًا جديدًا على التعدد، بل هي أرض تلاقت فيها الشعوب السامية منذ قرون، وامتزجت فيها الهويات دون أن تذوب. فغالبية السوريين من أصل سامي، ويتحدثون اللغة العربية التي تنحدر من الجذر اللغوي ذاته مع السريانية، بل إن بعض المفردات والتراكيب لا تزال حاضرة في لهجات الناس اليومية.

وإذا كان الأصل واللغة يجمعاننا، فإن الدين يزيد هذا القرب رسوخًا. فالعرب والأكراد، ورغم ما يُصوَّر من خلاف، يجمعهم الإسلام، والدروز والعلويون ينحدرون من قبائل عربية عريقة، لا يختلفون في الجذر عن سائر أبناء هذه البلاد. لقد عاش السوريون قرونًا دون أن تقسمهم هذه الانتماءات، فما الذي تغير اليوم؟

الغريب أن السوري حين يهاجر إلى مجتمع غربي، يبذل كل ما في وسعه ليحصل على المواطنة، ويحترم قوانين البلد الذي لجأ إليه، بل يُظهر حرصًا شديدًا على الاندماج. فلماذا، في بلادنا، نرمي بالمواطنة ونستحضر العرق والطائفة؟ هل هناك دستور في العالم يضع مجموعة دينية أو قومية فوق الدولة؟ وهل يمكن لدولة أن تُبنى على مبدأ المحاصصة الطائفية وتستقر؟

إن من المؤسف أن البعض يطالب اليوم بإعادة إنتاج النظام الطائفي الذي أسسه حافظ الأسد، أو استيراد فكر عنصري تفكيكي نادى به عبد الله أوجلان. وكأن قدر السوريين أن يتأرجحوا بين طائفية السلطة وانفصالية المعارضة. وهذا وهم. فقد أثبت التاريخ أن السوريين عاشوا متحابين، متعاونين، يتشاركون الهمّ والفرح، ولم تحمِهم طائفة أو حزب، بل حمتهم روابط الانتماء والاحترام المتبادل.

العصر الذي نعيشه يفرض علينا أن نكون عقلاء. لا حماية لنا إلا بدولة مواطنة، يكون فيها الجميع متساوين أمام القانون. لا مجال بعد اليوم لدولة الطوائف أو الأعراق. فالدول الحديثة تُسمّى غالبًا بلغة الأغلبية وثقافتها، دون أن يعني ذلك قمعًا للآخر. فرنسا ليست كلها فرنسيين، وألمانيا ليست كلّها ألمانًا. ولكن الجميع فيها يحترم القانون، ويتحدث لغة الدولة، ويمارس حريته الدينية والثقافية دون خوف أو وصاية.

المفارقة أن المسلمين، الذين أصبحوا أقلية في كثير من دول الغرب، تُحترم عباداتهم هناك، وتُبنى لهم المساجد، وتُقر لهم الحقوق، بينما في بلادهم الأصلية، يُطلب منهم خفض صوتهم، وتُفرض عليهم هوية مائعة باسم “العلمنة”. فهل أصبح الإسلام اليوم هدفًا للشيطنة في قلب دياره أكثر مما هو في بلاد المهجر؟

أنا ضد أن يُحدّد دستور الدولة دين أو عرق رئيسها، أو أي منصب فيها. مثل هذه الأمور تُترك لإرادة الشعب، يحددها عبر صناديق الاقتراع. لا يحق لأي مجموعة أن تفرض قوانين فوق دستورية لتحقيق مكاسبها الخاصة، ولا أن تحوّل البلاد إلى ساحة لتصفية الحسابات العقائدية.

سوريا اليوم بلد منهك، تتكالب عليه الأطماع من كل حدب وصوب، ولا يجوز أن نتيح الفرصة لأعدائنا عبر صراعات داخلية لا تخدم إلا المصالح الضيقة. الإعلان الدستوري اليوم ليس أكثر من مرحلة انتقالية، أما الدستور الدائم، فيجب أن يكون عقدًا اجتماعيًا ناضجًا، يُصاغ بإرادة الشعب وحده، ليحدد شكل الدولة، اسمها، علمها، نشيدها، ونظام حكمها.

لا يحق لأحد أن يحتكر الحديث باسم الشعب بينما يرفض خياراته. لا يحق لمن يطالب بدولة علمانية أن يسير خلف رجل دين ويمنحه العصمة، ولا لمن يدّعي الديمقراطية أن يفرض تصوراته على الأغلبية. وإذا لم تتحقق رغباته، يطالب بالانفصال في بقعة لا توافقه الرأي أصلاً.

نحن لا نحتاج إلى تمزيق جديد، بل إلى وعي وطني جامع. إلى دولة يسودها القانون، لا الولاء للطائفة. دولة تحتضن الجميع، وتمنح لكل فرد حقه الكامل، لا أن تُبنى على هويات ضيقة تختزل الوطن في لون واحد.

——-

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


الاخبار العاجلة
WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com