الاحساس الياباني .. لغة
قراءات في المنجز الفني المعاصر العالمي
شغف فنان ياباني بالأزهار، وتجميد لحظات الفتنة قبل أن تذوب في الفناء
د. عمر سعدون
فنان تشكيلي وباحث في الفنون المعاصرة

لطالما استوقفتني مصائر الحدائق العطشى التي تقاوم الجفاف، والأزهار التي تُقتلع بغير اكتراث لتفسح الطريق أمام تمدّن لا يترك متسعًا للحياة الهشة.
كنت أتأمل يدَى أمي وهي تنسق أزهار حديقتها بحنوّ العارف، تهبها أسماء كما لو كانت من أبنائها، تحفظ مواعيد ازدهارها وانطفائها، تميّز لحظة احتياجها للعناية من لحظة استسلامها لقدَرها المحتوم، تعلّمت منها أن الأزهار ليست زينة عابرة بل ذاكرة متجسدة تحمل في أوراقها همس الزمن.
وحين وقعت عيناي على أعمال أزوما ماكوتو لأول مرة عبر فيلم وثائقي حول الفن المعاصر الياباني، لفتتني تلك الصلة الخفية بين تجربتي وتجربته – ذلك الشغف الخالص بالأزهار، وذلك الحنين العميق لجمالها العابر، والرغبة العارمة في تجميد لحظات الفتنة قبل أن تذوب في قبضة الفناء.
في عالم مزدحم بالحركة، يظهر أزوما ماكوتو كمبدع مختلف لا يرى الأزهار كمجرد لمسة جمالية، بل ككائنات حية تنبض بحكاياتها الخاصة، تحمل في ألوانها ورقتها حكمة الفناء والتجدد، يسبر أغوار دورات حياتها و يراقبها من لحظة انبثاقها إلى لحظة تلاشيها، وكأنه يتتبع نَفَسها الأخير في صمت مهيب إذ يعيد تشكيلها بلمسة فنية تمزج بين تقاليد الإيكيبانا اليابانية العريقة، وروح التجريب الجامحة التي تنأى عن التقليد لتصل إلى جوهر أعمق، جوهر “الإنصات إلى الأزهار”. يرى في الأزهار معلمين صامتين، يُفصحون عن أسرارهم لمن يصغي إليهم مع أولى تباشير الفجر، حين يكون العالم بعدُ في طور الاستيقاظ، والروح مستعدة للاتحاد بلغة تتجاوز الكلمات، كما يتعامل معها بخشوع يشبه التفاني الممنوح للكائنات النبيلة، فهي ليست مجرد كائنات زائلة، بل أرواح هشة تنقل إلينا رسائل الزمن، تدعونا للتأمل في حتمية الزوال وجمال اللحظة العابرة.

هكذا باتت منحوتاته النباتية انعكاسًا لفلسفة “مونو نو أواري Mono no aware “، ذلك الإحساس الياباني العذب بجمال الأشياء التي تؤول إلى زوال.
في كل وردة يثبتها في كتل جليدية، وفي كل باقة يرسلها نحو السماء، تتجلى رغبة دفينة في الاحتفاء بالحاضر، في تجميد اللحظات قبل أن تذوب، وكأن أعماله ليست إلا مرآة تعكس هشاشة الوجود وسحره في آن واحد.
ولد أزوما ماكوتو عام 1976 في فوكوكا اليابانية، ولم يكن يدري أن مصيره سيرتبط بالأزهار بهذا العمق. انتقل إلى طوكيو عام 1997 مدفوعًا بشغف الموسيقى، لكن القدر قاده إلى سوق أوتا الشهير، حيث وقع في غرام الزهور لا كبضاعة تُباع وتشترى، بل ككيانات نابضة بالحياة. لم يمضِ وقت طويل حتى افتتح متجره الخاص عام 1999، ليبدأ رحلة فنية غير مسبوقة، ترسخت أكثر حين أسس عام 2002 مشروع “JARDINS des FLEURS” بالتعاون مع المصور شينووكي شونسوكي، حيث دفع بفن تنسيق الأزهار نحو فضاءات غير مألوفة.
مع مرور الوقت تحول هذا المشروع إلى مختبر إبداعي تتحكم فيه أدق التفاصيل، من الضوء والرطوبة إلى الموسيقى، ليمنح الأزهار بيئة تتناغم مع وجودها كضيوف مكرّمين لا مجرد نباتات عابرة.
تجاوز أزوما حدود المألوف، فلم تعد الأزهار عنده مجرد عناصر تزيينية، بل كيانات تنطق بلغة الفن المعاصر، تنصيبات و منحوتات تنبض بالحياة، مجسمات تتحدى القواعد، تركيبات تتراقص بين الجمال والغرابة. لم يقتصر فنه على المعارض والصالونات، بل تعاون مع دور الأزياء العالمية مثل Hermès، وخاض مغامرات فنية مع مصممين مثل Dries Van Noten. لكنه لم يكتفِ بهذه العوالم المألوفة، بل دفع الأزهار إلى أقاصي المستحيل، إذ أرسل باقات زهرية إلى الفضاء، كأنما أراد أن يرى كيف يتناغم الجمال الهش مع أقسى البيئات، في صقيع الجليد ولهب الشمس وفراغ الكون.
وفي واحدة من تجاربه الأكثر إثارة، أطلق مشروع “EXOBIOTANICA” عام 2014، حيث حلّقت باقات الأزهار إلى ارتفاع 30,000 متر فوق صحراء بلاك روك في نيفادا، وسط برودة تصل إلى خمسين درجة تحت الصفر، هناك في العزلة المطلقة حيث لا هواء ولا تربة، وقفت الأزهار في مواجهة الكون الفسيح، تتحرر من جذورها الأرضية، تسبح في فضاء لا يعرف الثبات. « بونساي صنوبر صغير حلق بين السحب، وأزهار تتناثر في مدار صامت، كأنها تهمس برسائل لا يفهمها إلا من يقدّر فتنة الأشياء الزائلة».
هكذا، بين الأرض والفضاء، بين الجليد واللهب، يستمر أزوما ماكوتو في البحث عن لحظة الخلود الكامنة في قلب الفناء، كأنما يريد أن يُذكّرنا دائمًا بأن الجمال العابر هو الأكثر أثرًا، وأن في كل زوال ميلادًا جديدًا.
المقال خاص لصحيفة قريش – لندن